الزمان
جريدة الزمان

مقال رئيس التحرير

إلهام شرشر تكتب-القراءة الفريضة الواجبة.. والمتعة الغائبة

الكاتبة الصحفية إلهام شرشر
بقلم-إلهام شرشر -

مازلنا نعيش فى رحاب عناية الإسلام بالوعى بكل روافده وأدواته ووسائله التى لا محالة لها صلة قوية باستقامة الفكر.. وتوقد العقل.. ويقظة الجوارح.. وتقوية الإرادة.. والعزيمة.. والشكيمة.. واعتدال المزاج.. ورسوخ اليقين.. ونقاء الفطرة.. وعلو الهمة.. وتوثيق الصلات.. وتقوية العلاقات.. وترشيد الخلافات.. وتصفية الاختلافات.. وعلاج المنازعات.. واحتواء المناظرات.. والحفاظ على أدب الحوار.. وحسن الجدال.. فضلًا على الضرب فى الأرض.. والسعى لتحقيق الخلافة بالإعمار والتنقيب.. والبناء والتشييد.. ‪ والارتقاء فى منازل العارفين.. ومدارك السالكين.

وإذا كنا قد تنقلنا بين ثمار الوعى لنقطف منها ما يحقق غايتنا فى الحياة فإن لنا أن نقف مع أشهى هذه الثمار وأكثرها تأثيرًا وإدراكًا واستيعابًا وفهمًا ولذة.

إنها القراءة التى تحتل فى ديننا من المكان والمكانة التى تشهدها الآيات.. وتؤكدها السنة المطهرة النبوية وتثبتها المواقف الرشيدة ويسجلها التاريخ للمسلمين.

إنها القراءة الفريضة الواجبة والمتعة الغائبة والوسيلة التى لا غنى عنها لحياة الإنسان.

كيف لا.. والقراءة تتعامل وتتناول أهم جزء يميز الإنسان ويفضله عن الآخرين أنه العقل الذى تستثيره وتحفزه وتقلقه حينًا وتقره أحيانًا أخرى وتخفف عنه ضغوط الحياة وتأخذه بعيدًا عن عالمه الضيق إلى عوالم أخرى أكثر رحابة وسعة.

إنها القراءة التى تجعل للحياة معنى ولذة ومتعة بل إنها تجعل من حياة الإنسان سبيلًا لأكثر من حياة واحدة لأنها تزيد حياته عمقًا وإدراكًا ووعيًا.

بل إن القراءة تجعل حياة الإنسان سبيلًا للوصول إلى حياة الخلود ودخول الجنة قال صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)).

والعجيب فى أمر هذه الأمة التى نتشرف بالانتماء إليها أن كتابها جاء ليعلن منذ لحظته الأولى دعوته إلى القراءة بل وأمره بها.

ومن المعلوم أن أول آية نزلت فى القرآن الكريم كانت اقرأ.. وعلى الرغم من أن كلمات القرآن الكريم تجاوزت الـ٧٠ ألف كلمة اختار الله تعالى هذه الكلمة لتكون هى بداية الغيث الذى نزل على قلب النبى صلى الله عليه وسلم.

وعلى الرغم من تعدد الأوامر الإلهية فى كتاب رب البرية من أمر للصلاة والصيام وأمر بمعروف وسواهم من الأوامر .

إلا أن الخالق عز وجل اختار القراءة لتكون هى الأمر الأول الذى كلف به البشرية، وذلك لأن القراءة مفتاح الوصول إلى الله عز وجل وأيسر طريق لمعرفته جل وعلا .

وإذا كانت القراءة دعوة الإسلام التى حث المسلمين عليها ورغبهم فيها وحببهم فى التعلق بها على الرغم من تعدد وسائل التعلم من سماع ورؤية وخبرة وتجربة إلا أنها تبقى الوسيلة الأعظم مهما تعددت وسائل التعليم فهى على رأسهم جميعًا لأنها القنطرة التى تعبر من خلالها الإنسانية إلى كتاب الله المسطور وكتابه المنظور قال تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ ﴿١ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴿٢ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿٣ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿٤ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿٥(العلق).

والمتأمل فى الآية الكريمة يدرك أن القراءة فى دستور أمتنا وسيلة هامة ومشروعة لإسعاد الإنسانية وفيما يعود عليها بالنفع العام فى دنياها وآخرتها وليس فيما يهلكها أو يدمرها أو يهدد وجودها، لذلك جاءت الدعوة إلى القراءة فى القرآن مقيدة باسم الله، التى هى مفتاح كل خير وأساس كل نفع تتطلع إليه الإنسانية، ولعل لفظ الرب فى الآية كذلك يشير إلى معنى ينبغى أن يلفت نظرنا وهو ضرورة انتقال الإنسانية من التربية التى كانت عليها إلى تربية الحق سبحانه.

هذه التربية التى قوامها يقوم على قراءة آياته واستلهامها فى تشكيل الإنسانية التى هى النهج الصحيح والسبيل المستقيم.

ولم تقف الآية عند الكتاب المنظور بكل ما يحمل من دلالات وحجج باهرات على وجود الخالق، وبكل ما يحمل من دعوة صريحة وملحة وقوية إلى التفكر والتدبر وإمعان النظر فى الكون لاستخراج خيراته والتنقيب عن مكنوناته.

والعجيب فى لفظ الآية أنها لم تقتصر عنايتها بالقراءتين فقط (الكتاب المسطور والكتاب المنظور) وإنما أشارت وأشادت بالقلم حتى لا يحسب أحد أن القراءة فى الآية على غير معناها الحقيقى.

إن الآية الكريمة لتحمل بين حروفها دعوة إلى الملاحظة دعوة إلى التدبير والاعتبار إنها لتضع المسلم فى مناخ علمى زاخر بالمعرفة.

إن الآية الكريمة لتحض على ضرورة تنمية القدرات العقلية وتوسيع دوائر المعارف وتجعل من القراءة نافذة يطل فيها على العالم.

إن الآية الكريمة تضع الأمة الإسلامية أمام حقيقة هامة وهى أن الحياة البشرية فى سائر تحركاتها وسكناتها وفى مختلف شؤونها ينبغى أن تنطلق من بسم الله.

لأن القلب الخالى من الإيمان المجرد من الإحساس بوجود الخالق عز وجل يجعل من العلم سلاحًا للفساد والإفساد قال تعالى: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِى بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴿14(الشورى).

فالعلم عندما يفقد الإخلاص لله عز وجل والرفق بالإنسانية يثير الفزع والرعب فيها ويدعو إلى التفرقة فيما بينها ويقطع ما أمر الله به أن يوصل.

وبهذا نفهم ما جاء من ضرورة الالتزام بالتقوى والحرص على التحلى بها قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّـهُ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿282(البقرة).

فالعلم يؤدى لا محاله إلى معرفة الله عز وجل، لذلك قيل إذا أردت أن تعبد الله حق عبادته فلتعلم كيف تعبده وكلما زاد الإنسان علمًا ومعرفًا بالله عز وجل ازدادت خشيته له، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴿28(فاطر).

والسؤال الذى يطرح نفسه لماذا نقرأ؟؟؟؟؟!!!!!

والإجابة نستقيها من القرآن الكريم لكى نرتفع ونرتقى ونسمو ونعلو، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّـهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴿11(المجادلة)

ولعل ما يؤكد دعوة الإسلام إلى القراءة وحرصه عليها ما كان من موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر عندما أشار إلى وسيلة لفك أسرهم لم تكن معروفة عند العرب ولا فى أدبيات الحروب.

لقد اشترط صلوات الله عليه لفك أسرى بدر أن يقوم كل أسير بتعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.

لا شك أن هذا الإجراء الذى اتخذه الرسول يحمل دلالات ومعانى كثيرة ومتعددة لعل من أهمها القراءة والحرص عليها.

ها هو أبو هريرة يسجل لعبد الله بن عمرو بن العاص تفوقه عليه فى رواية الحديث لأنه كان يكتب وفى هذا يقول (ما من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه منى إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب).

لقد غرس الإسلام حب القراءة فى قلوب المسلمين بل وجعلها معيارًا للتفاضل بينهم بدليل أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم اختار زيد بن ثابت كاتبًا للوحى مع غيره لأنه كان يجيد القراءة والكتابة كما كان يجيد اللغات غير العربية.

ولقد قرأ زيد على رسول الله فى العام الذى توفى فيه مرتين وسميت هذه القراءة بقراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة ويقصد بالعرضة: (معارضة النبى لِجبريل بالقرآن بغرض تأكيد الحفظ والاستظهار وغير ذلك من الفوائد كما سبق، وكانت الحاجة إلى هذا التأكيد بعد وفاة النبي) وكان يقرئ الناس بها حتى مات .

كما اختاره الخليفة أبو بكر الصديق ليقوم بأجل مهمة وأخطرها على الإطلاق وهى الإشراف على جمع المصحف الشريف، قال له: «إنك شاب عاقل لا نتهمك قد كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتَتَبَّع القرآنَ فاجْمَعْهُ»، فقلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: هو والله خير. وقال زيد بن ثابت، فلم يزل أبو بكر يراجعنى، حتى شرح الله صدرى للذى شرح له صدر أبى بكر وعمر»، ونهض بالمهمة على خير وجه، يقول زيد: (والله لو كلفونى نقل جبل من مكانه لكان أهون على مما أمرونى به من جمع القرآن)، لقد كان رضى الله عنه كما قال: (فكنتُ أتتبع القرآن أجمعه من الرّقاع والأكتاف والعُسُب وصدور الرجال).

ولما استقر رأى خليفة الثالث عثمان ابن عفان رضى الله عنه على اختيار لغة قريش من بين اللغات التى كان يُقرأ بها القرآن فى هذا الوقت سأل عثمان: من أكتب الناس، قالوا زيد، فأمره بكتابة المصحف وسمى مصحف عثمان رضى الله عنه .

فقلد كان سر اختيار زيد لهذه المهام الجليلة يرجع لا محالة إلى تفوقه فى القراءة والكتابة.

والمتتبع لتاريخ المسلمين الأوائل يدرك أنهم صنعوا حضارة وشيدوا أمة مجدت من شأن القراءة واعتمدت على العلم وأجادت توليد العلوم والتأليف والترجمة واهتمت بالعلم والعلماء.

 والتاريخ يخلد لنا أسماء فى كل تخصص سواء فى العلوم الشرعية أو فى العلوم التجريبية.

ويكفى أن نشير إلى الخوارزمى الذى وضع أساس علم الجبر ولا يزال التاريخ يحتفظ لنا بالكلمة العربية دون ترجمة عرفانًا وتقديرًا لمكانته.

وإذا أردنا أن نحصى الرموز الذى خلد التاريخ ذكراهم فى مختلف العلوم التطبيقية فإن الأمر ليحتاج إلى مجلدات.

أضف إلى ذلك ما خلده التاريخ من مكتبات فى العواصم الإسلامية المختلفة والتى جمعت مئات الآلاف من الكتب والمراجع فى شتى العلوم العربية والشرعية والعقلية والعلمية والتاريخ ينسج حولها روايات أقرب إلى الخيال لغزارتها وتنوعها لتكون خير شاهد على الأمة فى صدرها الأول وحتى قرابة ألف من تاريخها على عنايتها بالقراءة والعلم الأمر الذى يؤكد حرص الإسلام عليها وحثه الدائم على القراءة.

ولعل ما يجسد عناية الإسلام بالقراءة ودعوته الحثيثة لها أن النبى صلى الله عليه وسلم جعل القراءة فى كتاب الله عز وجل ثوابها بالحرف وليس بالكلمة، ويقول صلوات الله عليه: (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنةُ بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف).

ومن المؤسف والمخزى أن أمة أقرأ انصرفت عن الأمر الإلهى وغابت عن المشهد الحضارى وتاهت عن مهامها المقدسة ووظيفتها الأولى، فبنظرة سريعة للتقارير الرسمية الصادرة من المجلس الأعلى للثقافة فى مصر الذى يشير إلى نسبة تدهور القراءة بين العرب مقارنة بالغربيين الذين يقضون ساعات طويلة فى القراءة.

ومن العجيب أن يسجل التقرير أن أمتنا تقرأ ٦ دقائق سنويًا بينما الغرب يقرأ ما يقرب من ٢٠٠ ساعة سنويًا.

وأن العربى يقرأ بمقدار ربع صفحة بينما الغربى يقرأ ما يزيد عن ٣٦ كتابًا سنويًا أما الإسرائيلى فإنه يقرأ ٤٠ كتابًا سنويًا.

أمر يدعو للخوف وينذر بالخطر ولعل ما تعيشه الأمة العربية من صراعات أكبر دليل على ذلك.

أما عن نسبة الأمية بين أمتنا فتجاوزت ٣٧٪ وإذا كانت استراتيجيات مؤسسات التعلم تقوم لدينا على مكافحة الأمية فإن مؤسسات التعلم الغربى تجاوزت هذا الهدف وأصبح لديها استراتيجيات أخرى.

إن هذه المؤشرات تعكس واقعنا الثقافى الأليم والمرير وحالة الأمة المتدهور، والتى تحتاج إلى استجابة جديدة لصيحة الحق.. اقرأ لكى تعود....