سحقًا لطاقية الإخفاء
تقدم علم الإدارة فى العالم، وظهرت أكاديميات وراء أكاديميات وأنجزت شهادات دكتوراه وما بعد الدكتوراه، ودفع المجتمع المال لكى يصل بعض أفراده إلى هذا المستوى من العلم فى الإدارة، بل وافتتح أكاديميات ومعاهد لها داخل الوطن العربى ليواكب التطور الذى حصل فى مجال الإدارة، ومع ذلك فلا نستطيع أن نقول إننا نرى انعكاسا لهذه الفتوحات العلمية فى مجال الإدارة على الأداء الإدارى والتعامل داخل الجهاز الحكومى مع المواطن، ولا أعتقد أن مقولات قديمة متوارثة بسبب المعاناة التى يعانيها الناس من الروتين قد لحقها أى تغيير مثل تلك التى تقول يوم الحكومة بسنة، ولا تغير التناول الساخر الذى يتعامل به الناس مع الروتين عندما يسخرون من كلمة «فوت علينا بكره»، لأن هذا الغد الذى يعدك به الموظف لا يأتى إلا بعد دهور ودهور، إذا جاء، وأحيانا لا يأتى أبدا.
ويبدو أن هناك مفارقة تتحكم فى هذه الحالة الإدارية الوظيفية الروتينة، وهى أنه كلما زاد عدد المتعلمين بالإدراة كلما زادت الإدارة فى جهازنا الحكومى تأزما وتقهقرا وتنكيلا بالمواطن والعياذ بالله، وعلماء الإدارة هؤلاء، يرون هذه المأساة تحدث أمام أعينهم، دون أن نسمع لهم صوتا أو نرى لهم رأيا يعترض أو يقوم بالتوجيه والتنبيه والإنذار وسوء المآل للبلاد والعباد، فهم نائمون فى العسل، وبكل ما يملأ مواقع التواصل الاجتماعى من ضجيج عاطل وباطل وصالح وطالح فإننا لا نجد لأحد منهم حضورا إطلاقا يشير إلى هذه العلل وهذه الكوارث التى هى بالتأكيد أكثر أسباب التأزم فى بلادنا استفحالا وإجراما فى حق الوطن، وطبعا نحن لا نعفى أهل الحراك السياسى فهم فيما يبدو ورثوا حالة يجب أن يعينهم أهل العلم والتخصص على تجاوزها، ورؤية أبعادها واقتراح الحلول لها، إنهم صامتون، بعيدون عما يحدث، بما فى ذلك أعضاء فى المجالس النيابية المعنية بالتشريع وإصدار القوانين القادرة على مكافحة أمراض الجهاز الحكومى، كان العمى أصاب قلوبهم وعيونهم وضمائرهم فلا يرون الكارثة التى يعيشها المواطن بسبب هذا الإخفاق، وإذا أردت، رجوعا للحالة الليبية، فأشير إلى أكثر الكوارث استفحالا وأكثر العلل الإدارية انتشارا فى المرحلة الأخيرة، هى طاقية الإخفاء التى صار يرتديها المسئول الحكومى فتراه قد غاب ولم يعد هناك إمكانية للمراجعة ولا للسؤال ولا لمعرفة المصير الذى يلاقيه الورق، الموكول إليه إنجازه، لقد نجح هذا المسئول فى ارتداء طاقية الإخفاء وقد تبخر ــ تكلثه أمه ــ فى الهواء، فلا سبيل للحصول عليه لسؤاله عن ورق وصل إليه ولا مراجعته عن قرار يخص حياتك ومصيرك تنتظر على أحر من الجمر صدوره، وتذهب إلى مكتبه فتجد المكتب مقفولا دونه حراس وحجاب، ولا سبيل إلى لقائه أو الحصول على موعد معه، وتسأل عنه هاتفيا فلا تجد هاتفا من هواتف الإدارة يوصلك به، ولا تجد موظف بدالة ولا سكرتيرا يجرؤ على تحويل المكالمة إليه، وإذا بذلت المساعى حتى حصلت على هاتفه النقال فلا سبيل لأن تسمع ردا فهو إما مقفل، وإما يصدر رنينا لا أحد يعتنى به حتى ينطفئ من تلقاء نفسه، ولم يعد الأمر قاصرا على أهل القرار والمسئولية وإنما وصلت فى حالة الإدارة الليبية إلى أهل الوظائف الصغيرة حتى لو كان حارس مخزن، يقفل هاتفه، ويقفل باب مخزنه، ويتوارى خلف الجدار، أو خلف باب من الأبواب، فلا يظهر له أثر، عندما تريد أن تقضى حاجة منه، ولا يجيب عندما تريد الاستفسار عن شيء لديه، رغم أن وظيفته هى قضاء هذه الحاجة والإجابة على هذا الاستفسار، ويبقيك تدور فى حلقة مفرغة حتى يصيبك الدوار.
مع أنك لم تقصد مكتبا خاصا، وإنما مكتبا حكوميا تقصده للحصول على خدمة يخولها لك القانون، فما جدوى جهاز الدولة؟
وما جدوى الحكومة إذا كانت بهذا الشكل الهلامى الذى يشبه القمقم المقفول؟
ولا نستطيع أن نقول إلا شيئا واحدا نجده أصلح اقتراح لعلاج هذه المشكلة وهو أن نرى تشريعا جازما قاطعا مانعا، يصدره أهل الاختصاص فى المجالس النيابية بتجريم وتحريم ارتداء طاقية الإخفاء، بمعنى ألا نرى هذا النبذ وهذا الطرد وهذا الامتناع عن قبول المراجعات، وإنما هواتف مفتوحة وأبواب مفتوحة وحراس لا يمنعون الدخول إلا إذا كان هناك شبهة تهديد بارتكاب جريمة أو اعتداء الحارس للحماية فقط وليس لمنع المواطن من لقاء الموظف، هذا هو المطلوب ولا شيء سواه.