أبحث عنك يا عمر في دنيا خاوية من الأحبة خالية ..
الحلقة التاسعة
إنها أيام تسلمنا لبعضنا البعض نحن البشر .. أو أننا نسلم بعضنا البعض تلك الأيام .. ليأتي القران الكريم ويحسم ذلك التسليم أو هذا التداول بقوله الحكيم .. «وتلك الأيام نداولها بين الناس..» ...
دروس وعبر ومواعظ عبر الزمان ولا أحد يعتبر بها ولا أحد يستوعبها ولا أحد يركن إليها ويعمل لها حسابا ... ليكون هؤلاء هم معظم البشر على مر الزمان .. يحسبون دوما أنهم مخلدون .. ولا أعلم إذا كانوا لا يعلمون حقا أنهم ضيوف عابرة على الدنيا ... وعليهم أن يستشعروا أنهم ضيوفا عليها..
أم أنني ألتزم الصمت .. لأني استبعد أنهم لا يعلمون تلك الحقيقة ... وإنما هم يعروفونها جيدا ولكنهم يتجاهلون وللاسف لسبب واحد تعلقهم بالدنيا ... الذي أعماهم عن سر قدومهم إليها ..
ليكون في ذلك التمسك بها هو الفناء بعينه .. الفناء رغم أنهم لا يزالون أحياء .. لأنهم لن ولم يعملوا للحظة الرحيل ... فتكون لهم الذكرى في الدنيا ولن تكون إلا بالقول الصالح والعمل النافع ... كما أنهم طمسوا معالم الحياة الأخرى الحقيقة بالنسبة لهم .. حين لم يعدوا العدة لها .. ودوما ما أحب أن أذكر نفسي بذلك الرحيل .. أراه سطور وصفحات القران الكريم .. فكأني لا أعيش إلا للعمل له والحمد لله رب العالمين وبالطبع يشاركني من رحم ربي ...
لتزيد أسباب عملي لهذا الرحيل وقناعتي به والحمد لله رب العالمين .. مراجعة سير الأنبياء و الصالحين .. وعلى رأسهم النبي ... «إنك ميت وإنهم ميتون» ..
ليكون في ذلك المجاز لما سيئول إليه «أنهم ميتون» .. وكأنه يقطع الطريق على تلك اللامبالة وهذه الغفلة قبل السكرة .. ولكن : هيهات هيهات ... هكذا هم قالوا ولا يزالوا يقولون وكأنه ميراث تلك الغفلة و العصيان وعليهم أن يسلموه لجيل بعد جيل عبر القرون والأيام ... .. «هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا »
وحين ينتابني اليأس لأنني أشعر كما لو كنت أكتب لنفسي .. أجد أن هناك طاقة .. قوة عظمى تدفعني ..هي التي تحركني وتتملك من كل ذرة في كياني ...
انصتوا إلى الأيام.... ارجعوا النهاية والمآل .. راجعوا من سبقونا .. كفوا عن الدنيا بحثا عن جاه أو مال ..
ابحثوا فيها عن الباقي الخالد .. اتقوا فيها الله العزيز المتعال ..
لن تكونوا أعظم من رسول الله ... الذي تركها على المحجة البيضاء ... ليلها كنهارها .. حلوها كمرها .. لا يزيغ عنها إلا هالك !!!!!!!!!!!! ....
إنها كلمات .. إنها رسائل .. إنه حديث النفس الطاهرة .. إنه نداء الروح الصافية .. إنه مٌنية القلب السامية .. إنها ذلك الرجاء الذي يلتقي رغم دنو الجسد إلى أعلى العليين في السماء ...
للحظات أسكن ألم الفراق .. فراق الأحبة «صلى الله عليه وسلم» واله وصحابته الأوفياء الكرام ومن بعدهم رموز الإنسانية الذين صاروا على الدرب ... وحفظوا العهد .. ثم الغاليين الذي فرغت علينا الدنيا من بعدهم .. ولكن انشغلوا بعدها في شيئ واحد .. أضع فيه كل همي وحزني لذلك الفراق .. وهو إعداد العدة لحظة اللقاء .. اللقاء بهم جميعا .....
فتهون الدنيا من حولي .. يصغر ما كان منها من عظائم حلوة كانت أو مرة .. ولا يبقى في حلقي إلا حلو اللقاء .. لأشعر أنني دوما في الدنيا عروس أتزين وأتجهز لعرس ولكنه حقيقي مهما كانت المعاناة والشقاء ...
فما أعيش إلا قلبا ويدا وروحا لا تعرف إلا التسامح والعفو وشيم الكرام .. بحلو الكلام يتوجه العطاء ....
مع رحيل آخر ... مع رحيل «الصديق» وإن كنا نتمزق معه .. تكاد روحنا من ملاصقتنا له ترحل معه .. إلا أنه يثبتنا إيمانه وحبه لله ولرسوله .. لنتعلم منه كيف أننا نحب الرحيل .. أننا نحترمه .. كيف أننا نكون أقوياء متسامين .. نثبت الغاليين من حولنا رغم هول اللحظة ... وحين نثبتهم إنما نثبت اليقين والإيمان بداخلهم .. لعلهم يحبوا الرحيل معنا ... أو على الأقل لا يجزعوا منه .. حتى نترك الدنيا ونحن مطمئنين عليهم ...
لأنهم سوف يكملون مشوار حياتنا ... إذن سوف نحمل الأمانة .. لأننا سوف نلقاهم .. ونلقى من قبلهم .. إذن لن ينقطع التواصل بيننا وبينهم .. لإستكمال مشاور حياة توقفوا هم عنه .. لأنهم تركوه أمانة بين أيدينا .. فكيف لنا أن نفرط فيه.. فهل يهون علينا أن نقطع ما في ذلك من وصال بيننا وبينهم !!!!! ....
ها هو ذا «الصديق أبو بكر» حين دخلت عليه ابنته عائشة «رضي الله عنها» .. فتتمثل بقول الشاعر قائلة
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى .... إذا حشرجت يوماً و ضاق بها الصدر
فنظر إليها أبو بكر كالغضبان وهو في أشد سكرات الموت .. -وكأنه قوي في هذه اللحظة فقط من أجل أن يقول لها- : ليس كذلك ... و لكن قولي : «و جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد» ...
لما اشتد المرض بأبي بكر جمع الناس إليه.... فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي.... وحل عنكم عقدتي... ورد عليكم أمركم فأمروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمرتم في حياتي كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي.... وتشاور الصحابة «رضي الله عنهم»... وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية.... لذا رجعوا إليه.... فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك.... قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده.... فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف.... فقال له: أخبرني عن «عمر بن الخطاب».... فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني: فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه.... ثم دعا عثمان بن عفان.... فقال: أخبرني عن «عمر بن الخطاب»،،،. فقال: أنت أخبر به... فقال: على ذلك يا أبا عبد الله...
فقال عثمان: «اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته... وأنه ليس فينا مثله»... فقال أبو بكر: «يرحمك الله.... والله لو تركته ما عدتك... ثم دعا أسيد بن حضير فقال له: مثل ذلك.... فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك يرضى للرضا.... ويسخط للسخط.... والذي يسر خير من الذي يعلن.... ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.... وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين.... وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدته.... فقال لأبي بكر ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟؟؟.... فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفونني؟؟؟!!...
خاب من تزود من أمركم بظلم أقول: «اللهم استخلفت عليهم خير أهلك وبين لهم سبب غلظة عمر وشدته».... فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه ثم كتب عهداً مكتوباً يقرأ على الناس في المدينة وفي الأنصار عن طريق أمراء الأجناد فكان نص العهد :
«بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها.... وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها.... حيث يؤمن الكافر.... ويوقن الفاجر.... ويصدق الكاذب.... إني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي.... وإياكم خيراً..... فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه.... وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب..... والخير أردت ولا أعلم الغيب.. «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ»سورة الشعراء....
هذا وقد أخبر «عمر بن الخطاب» بخطواته القادمة.... فقد دخل عليه عمر... فعرفه أبو بكر بما عزم فأبى أن يقبل..... فتهدده أبو بكر بالسيف فما كان أمام عمر إلا أن يقبل.... وأراد الصديق أن يبلغ الناس بلسانه واعياً مدركاً حتى لا يحصل أي لبس.... فأشرف أبو بكر على الناس وقال لهم: أترضون بمن استخلف عليكم..... فإني والله ما ألوت من جهد الرأي..... ولا وليت ذا قرابة..... وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا......
فقالوا: سمعنا وأطعنا.... وتوجه الصديق بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه.... وهو يقول: «اللهم وليته بغير أمر نبيك....ولم أرد بذلك إلا صلاحهم.... وخفت عليهم الفتنة.... واجتهدت لهم رأيي.... فولَّيت عليهم خيرهم.... وأحرصهم على ما أرشدهم..... وقد حضرني من أمرك ما حضر.... فأخلفني فيهم فهم عبادك....
وكلف أبو بكر عثمان «رضي الله عنه»....بأن يتولى قراءة العهد على الناس وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر بعد أن ختمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر.... دون أي آثار سلبية...
وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم.
فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به.... فبعد أن قرأ العهد على الناس ..... ورضوا به أقبلوا عليه وبايعوه واختلى الصديق بالفاروق وأوصاه بمجموعة من التوصيات لإخلاء ذمته من أي شيء..... حتى يمضي إلى ربه خالياً من أي تبعة بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده....
وقد جاء في الوصية:
« اتق الله ياعمر.... واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل.... وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار.... وأنه لا يقبل نافلة حتى تُؤدى فريضة..... وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق غداً أن يكون ثقيلاً،..... وإنما خفّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل غداً أن يكون خفيفاً..... وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه..... فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف أن لا ألحق بهم..... وإن الله تعالى ذكر أهل النار..... فذكرهم بأسوأ أعمالهم.... وردّ عليهم أحسنه.... فإذا ذكرتهم.... قلت: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء ليكون العبد راغباً راهبا.... لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله.... فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت ولست تُعجزه.....
باشر عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» أعماله بصفته خليفة للمسلمين..... فور وفاة أبي بكر «رضي الله عنه»....
أي خلق .. أي إسلام ... أي ضمير .. أي مسئولية .. أي حب لله .. أي حب لرسول الله .. أي أمانة .. تحملها وتودعها يا أبا بكر .. يا صديق يا صدوق يا صديق نبي الرحمة للعالمين ...
وكما لو كانت الخلافة يودعها الصديق أبو بكر كطفل رضيع يؤمن عجزه .. ليتأكد من رعايته !!!! ... وكما لو كانت الخلافة ... قطعة نفيسة نادرة من أغلى الأحجار الكريمة .. أو من الماس .. يحاول أن يضعها في لفافة حريرية في خزنة خشية خدشها ..
وكأنه في الحالين .. يلقي ضوءا مبهرا على قيمة ذلك الشيئ .. لعله يلفت الأنظار إليه ... وهو يراعي في النهاية ليس الخليفة الذي يليه من بعده وإنما يراعي الله وأمانته على أرضه .. يراعي الحفاظ على امتداد رسالة رسول الله ... يراعي الرسالة نفسها لمن يحافظ عليها .. ولا يخدشها .. ولا يلوث بريقها .. أو أنه يراعي الرعية .. لعله يضمن لهم فحوي وسمو ورفعة وعلو وخطورة وأهمية الرسالة ... بضمان الخليفة الصالح لحمل وأداء تلك الأمانة .. رغم أنه كان يعرف من هو «عمر» ...
إلا أنه كما لو كان يريد أن يشنف أذانه ويطرب نفسه ويسعد قلبه .. بكل ما قيل في حق عمر كأنه يواسي نفسه ...
ولكني أستشعر أيضا كما لو كان يواسي نفسه وكأنه مقصر في حقها بذلك الرحيل يطمئنها أمام الله وأمام رسول الله .. وأمام السنة الشريفة .. وأمام أتباع الإسلام من مهاجرين وأنصار ..
إن أمانة الله على الأرض مصانة .. ولكنه قدر استطاعته ولاّها لخير الولاة من بعده .. من يصونها؟؟!!...
لا يصونها إلا الفاروق العادل «ابن الخطاب» .... وكأنه يشهد الله سبحانه وتعالى و كأنه يشهد الرسول وكأنه يشهد الكون ويشهد ملائكة السماء والأرض وما بينهما .. أنه ما قصر في حق الرسالة حتى لحظة وفاته .. حتى رحيله ..
وما كان أصدق من النصوص الشرعية .. التي أوصت بأحقية الفاروق العادل عمر بن الخطاب بالخلافة ..
حيث أنه كان قد جاء في نص القرآن الكريم دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان «رضي الله عنهم» وعلى وجوب الطاعة لهم وهو أن الله تعالى قال مخاطباً نبيَّه....«فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا» سورة التوبة...
وكان نزول «براءة» التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك.... التي تخلف فيها الثلاثة المعذورون الذين تاب الله عليهم.... ولم يغز عليه الصلاة والسلام بعد غزوة تبوك إلى أن مات... وقال تعالى أيضاً: «سَيَقُولُ الْمُخَلَّفونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ» ... فبين أن العرب لا يغزون مع رسول الله.... بعد تبوك لهذا.... ثم عطف سبحانه وتعالى عليهم أثر منعه إياهم من الغزو مع رسول الله ... فقال تعالى:« قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا» سورة الفتح
وقد أخبر الله تعالى نبيه أنه سيضعهم في موقف الامتحان الأعظم .. حين يدعوهم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون... ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بخير الجزاء .. وتوعدهم على عصيان الداعي لهم بشر العاقبة والعقاب ..
قال أبو محمد بن حزم: وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله.... إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان «رضي الله عنهم».....
فإن أبا بكر «رضي الله عنه» دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة ..وأصحاب الأسود ..وسجاح ..وطليحة ..والروم ..والفرس ..وغيرهم......
ودعاهم عمر إلى قتال الروم ..والفرس....
وعثمان دعاهم إلى قتال الروم ..والفرس ..والترك
فوجب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان «رضي الله عنهم» بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلاً وإذ قد وجبت طاعتهم فقد صحت إمامتهم وخلافتهم «رضي الله عنهم».....
قال رسول الله: «أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب.... فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له.... ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن» ....
هذا الحديث يتضمن الإشارة إلى خلافة أبو بكر التي لن تستمر طويلا .. على خلاف.. خلافة الفاروق «رضي الله عنه»..... التي ستستمر طويلا .. وتشهد كثرة الفتوح ...وظهور الإسلام في زمنه....
فهذا المنام النبوي مثال واضح لما حصل لأبي بكر وعمر «رضي الله عنهما» في خلافتهما ..وحسن سيرتهما ... وظهور آثارهما ...وانتفاع الناس بهما ...وكل ذلك مأخوذ عن المصطفى ...وآثار صحبته فقد كان هو صاحب الأمر فقام به أكمل قيام حيث قرر قواعد الدين ...ومهد أموره ...وأوضح أصوله ..وفروعه ..ودخل الناس في دين الله أفواجاً ...وأنزل الله تعالى عليه قوله:« الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الأسْلاَمَ دِينًا»سورة المائدة
عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي جلوسا....ً فقال: إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم!!!!..... فاقتدوا باللذين من بعدي..... وأشار إلى «أبي بكر وعمر» ....وتمسكوا بهدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه.....
دل هذا الحديث دلالة صريحة..... على أحقية خلافة عمر «رضي الله عنه» .... فقوله: اقتدوا باللذين.... بفتح الذال أي: «الخليفتين اللذين يقومان من بعدي أبو بكر وعمر».....
عن أبي بكر أن النبي قال ذات يوم: من رأى منكم رؤيا؟؟؟!!... فقال رجل: «أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهية في وجه رسول الله» .....
لا أدري ماذا أقول !!!! .. ولا أعلم إذا كانت الكلمات سوف تسعفني .. سوف تكون أمينة في رصد إحساسي وإعزازي وإكباري وإجلالي للنبي «صلى الله عليه وسلم» ... ومدى الشفافية التي كان عليها كل من كان يحيط بنبي الأمة .. إلى هذه الدرجة من الصدق والأمانة .. حيث كان رسول الله نور يشع لكل من حوله .. تحديدا لمن أحبه .. ليمتد من نور النبوة ... ليكون مدادا لروح سيدنا محمد «صلى الله عليه وسلم» ...
وإذا كانت الكلمات لا تسعفني .. وأنا أرصد حلم أحد جلوس النبي «صلى الله عليه وسلم» .. حتى وإن لم يكن من المقربين .. ضمن الخلفاء الأربعة ..
إلا أنه كيف بالصدق في حب الله ورسوله والإيمان الكامل .. ينكشف الحجاب إلى هذه الدرجة عنهم .. ليكون بهذه الدقة .. حتى أنه لا يرى فقط الصالح والطيب ونور الله .. بل ينكشف له أكثر من ذلك .. حين توقف الحلم بعد عثمان ...
لنحكيه نحن بمحمر الدمع .. ونستكمله نحن بحرقة القلب .. على ما كان مع عليّ «رضي الله عنه» ويصير حتى الآن من فتنة المسلمين ...
ولكن يستوقفني أن سؤال رسول الله «صلى الله عليه وسلم» لم يكن من فراغ .. كان يعلم هذا الرد .. ولكنه كان يحب أن يكون على لسان أحد الصحابة .. بملئ السمع والبصر والفؤاد .. أنهم الخلفاء الراشدين من بعده ...
ولم يتوقف السؤال عن الحلم عند ذلك .. ولكن كما لو كان يحاول أن يحذر الأمة حيث توقف الحلم عن حالها بعد «عثمان» ...
ومما دل كذلك على أحقية خلافة عمر «رضي الله» عنه اجتماع الصحابة على أنهم لا يقدمون إلا أفضلهم وأخيرهم مع قول أبي بكر وعلي «رضي الله عنهما» فيه .....
فأما قول أبي بكر «رضي الله عنه» فيه فهو قوله: «اللهم أمرت عليهم خير أهلك»
وأما قول علي «رضي الله عنه» فهو ما رواه البخاري عن محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن
أبي طالب قال: قلت لأبي أي الناس خير بعد رسول الله: قال أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر وخشيت أن يقول: عثمان. قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين» ... سلمت .. وعظمت .. وبوركت .. يا خير خلق البرية ...
خير البرية نظرة إليّ .. ما أنت إلا كنز العطية
ها أنا اتغنى بك يا فخر البشرية .. إذا كانت هذه صحابتك.. فماذا كنت أنت يا حبيبي يا رسول الله .. كل ذلك لأنهم أحبوا الله وأحبوك.. فكانوا خيرة البشرية من بعدك .. استحقوا أن يتسلموا الراية منك .. أن يحملوا الأمانة عنك ..
عمر ... عمر ... عمر ... مع كل حبي وإعزازي للصحابة الكرام .. إلا أنني أشعر بمنزلة خاصة لك في قلبي .. لا أعرف سرها .. مهما اقرأ عنك يزداد يقيني بك .. ولا أتوقف عن اعجابي لك ..
قد يكون لإستدعاء نبي لك .. واستجابة ربي لإسلامك .. فتثبت يقيني بك .. لما رأيت من سيرة كانت ترجمة وتفصيلا أكثر من رائعة .. لأمل رسول الله فيك .. لله وللإسلام ..
و هكذا نقل إجماع الصحابة «رضي الله عنهم» ومن بعدهم على خلافة عمر طائفة من أهل العلم الذي يعتمد عليهم في النقل منهم:
روى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: دخلت على عمر حين طعن. فقلت: أبشر بالجنة يا أمير المؤمنين أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله ? حين خذله الناس، وقبض رسول الله.... وهو عنك راض ولم يختلف في خلافتك اثنان..... وقتلت شهيداً فقال: أعد علي فأعدت عليه فقال: «والله الذي لا إله غيره لو أن لي ما على الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع» ......
وقال النووي في معرض ذكره لإجماع الصحابة على تنفيذ عهد الصديق بالخلافة لعمر حيث قال: أجمعوا على اختيار أبي بكر وعلى تنفيذ عهده إلى عمر......
وإذا كانت خلافة أبي بكر أتت بعد شيئ من الخلاف بين المهاجرين والأنصار .. حتى حسمها عمر حين كان يراجع معهم مكانة الصديق عند رسول الله «صلى الله عليه وسلم» ... فإن خلافة عمر بن الخطاب كانت قاطعة بالإجماع عليه ..
معا نبدأ مع عمر رحلة جديدة من العطاء والحب .. من الإسلام وتسليم الأمانة .. من الرعاية لحقوق الله على الأرض .. والحفاظ على الرعية .. حسبما طلبها رب السماء والأرض ..
معا مع عمر الذي سطر أروع سطور في الخلافة والحكم .. وليكون نبراسا وتاجا .. في ضمير الأمة الإسلامية .. بصمة وعلامة في تاريخ البشرية ... حيث إنه قد يكون إذا تم الامتثال له .. بمثابة العصى السحرية .. للعودة من جديد بالإنسانية الشاردة أو الإنسانية الضالة إلى صحيح مسارها .. الذي يتوافق مع فطرتها وضميرها .. والذي معها لن يضل الإنسان .. ولن يجمح أبدا ...
بدأت خلافة عمر بسطور .. كلمات .. هي وخذات في ضمير الحكام .. ميزان في عقل الزمان .. نبضا في قلب العدل .. طعنا في ظهر الظلم .. سُما في حلق الباطل .. رصاصة في صدر الغدر ... سكينا في وجدان منافقا لعينا ... ناقوسا في عالم النسيان .. بعد أن أصبح الإسلام غريبا الآن! ... زلزالا بعد أن انهد الكيان .. اطلالا بعد انهيار صروح البنيان ..
اختلف الرواة في أول خطبة خطبها الفاروق عمر...
فقال بعضهم..... إنه صعد المنبر فقال: «اللهم إني شديد فليِّنِّي.. وإني ضعيف فقوني.. وإني بخيل فسخِّني....
وروي إن أول خطبة كانت قوله: «إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم بعد صاحبيّ... فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني... ولا يتغيب عني فآلو فيه عن أهل الجزء - يعني الكفاية - والأمانة...والله لئن أحسنوا لأحسنن إليهم.... ولئن أساءوا لأنكلنّ بهم»...
فقال من شهد خطبته ورواها عنه: «فوالله ما زاد على ذلك حتى فارق الدنيا»
وروي أنه لما ولي الخلافة صعد المنبر.... وهمّ أن يجلس مكان أبي بكر... فقال: «ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر».... فنزل مرقاة.... «فحمد الله وأثنى عليه» ثم قال : «اقرؤوا القرآن تعرفوا به... واعملوا به تكونوا من أهله... وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا... وتزيَّنوا للعرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية... إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله.... ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم.... إن استغنيت عففت.... وإن افتقرت أكلت بالمعروف» ....
ويمكن الجمع بين هذه الروايات... إذا افترضنا أن عمر ألقى خطبته أمام جمع من الحاضرين... فحفظ بعضهم منها جزءاً فرواه... وحفظ آخر جزءاً غيره فذكره... وليس من الغريب أن يمزج الفاروق في أول خطبة له بين البيان السياسي... والإداري والعظة الدينية...
فذلك نهج هؤلاء الأئمة الأولين الذين لم يروا فارقاً بين تقوى الله والأمر بها وسياسة البشر تبعاً لمنهجه وشريعته....
كما أنه ليس غريباً على عمر أن يراعي حق سلفه العظيم أبي بكر.... فلا يجلس في موضع كان يجلس فيه فيساويه بذلك في أعين الناس،.....فراجع عمر نفسه رضي الله عنه ونزل درجة عن مكان الصديق «رضي الله عنه».....
وفي رواية أخرى أنه بعد يومين من استخلافه... تحدث الناس فيما كانوا يخافون من شدته.. وبطشه... وأدرك عمر أنه لابد من تجليه الأمر بنفسه.... فصعد المنبر وخطبهم فذكر بعض شأنهم مع النبي وخليفته... وكيف أنهما توفيا وهما عنه راضيان؟؟!!.. ثم قال: ... ثم إني قد وليت أموركم أيها الناس... فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت.... ولكنها إنما تكون على أهل الظلم ..والتعدي ..ولست أدع أحداً يظلم أحداً ..أو يتعدى عليه حتى أضع خدّه على الأرض... وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق....
وإني بعد شدتي تلك أضع خدي لأهل العفاف وأهل الكفاف.... ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها..... لكم علي أن لا أجتبي شيئاً من خراجكم..... ولا مما أفاء الله عليكم إلا في وجهه.... ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه.... ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى وأسُدّ ثغوركم.... ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أجمّركم في ثغوركم.... وإذا غبتم في البعوث... فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم... فاتقوا الله عباد الله... وأعينوني على أنفسكم بكفها عني.... وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف ..والنهي عن المنكر ...وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم... أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.....
فلتستغفر الله لنا معك يا عمر .. كم تحتاجك أمة حبيبك محمد يا عمر ..
يا ليتك كنت لهم قائدا .. توحدهم ..
يا ليتك كنت لهم حاكما تُرَشد عقولهم ..
يا ليتك كنت قاضيا تفصل بينهم ..
يا ليتك كنت ضميرا يتحدث عنهم ... فيفيق ضمائرهم ..
ياليتك كنت صوتا لهم .. فتهذب من أحوالهم ..
يا ليتك كنت مرآة لهم .. فتجمل من قبحهم ..
يا ليتك كنت سيفا لهم تعيد إليهم شرفهم ..
ياليتك كانت تفوح رائحتك بينهم .. فتعيد الرجولة إليهم ..
ياليت كانت أنفاسك معهم فتعيد الشهامة والمروءة عندهم ...
ياليتك كنت إماما للمسلمين لعلك كنت توحد شتاتهم .. فتحسم أمرهم ..
يا ليتك كنت المؤذن في الصلاة لعلك تحيي الإيمان وتنير القلوب .. المظلمة عندهم ..
يا ليتك كنت الزوج .. فكم تحتاجك من الزوجات الكثير .. كي تعززها وتصونها وتكون العائل الكريم لها ..
يا ليتك كنت الأب كم يحتاجك من الأطفال لتكون عوضا لهم عن شراسة الدنيا وغياب الأمان عندهم ..
يا ليتك كنت الابن تعيد الحنان والرحمة والعذوبة والرقة ... تعيد البسمة التي غابت عن الأم الوحيدة المقهورة .. عن الأب الحزين الملفوظ ..
يا ليتك