الزمان
جريدة الزمان

سماء عربية

«إيزيس» وأسماء «رع» المجهولة

محمد غازي -

كان المصرى أول من فكر فى كيفية مجىء هذا العالم، ولفت انتباهه تأثير نهر النيل والشمس عليه، فشعر بأن وراء هذا الكون خالقًا، وظهرت أولى نظريات خلق العالم، وهى تاسوع أون أو تاسوع هيليوبوليس، فقد تصور أن "أتوم" قد جاء من الماء الأزلى وعطس، ومن عطسته أنجب تسعة آلهة، تحميه فى تصريف حياته اليومية، فكانت الأرض التى يعيش عليها ويزرعها ويقتات من ثمارها، أولى الآلهة التى لفتت نظره وهى “جب” ويقابلها فى السماء “نوت” التى تمطر، ومن مطرها والفيضان لنهر النيل تروى الأرض وتنتعش وتأتى بطعامه، وفهم أنه يعيش على الهواء الذى يتنفسه وساعده على ملء أشرعته والإبحار فى “نون - الماء الأزلى- نهر النيل” وهو “شو”، ولاحظ وجود الجبال الشاهقة “قاق” وعرف الرطوبة “تفنوت” ونفتيس، وفى الآخر إيزيس وأوزيريس وابنهما حورس.. ثم ظهرت نظرية ثامون الأشمونين ومن بعدها مدرسة بتاح منف.

ونما لدى أجدادنا اعتقاد جازم بوجود صلة بين الإنسان واسمه، فكان هناك اسمان لكل الأسرات والملوك، فالاسم الأول يمثل الإنسان الحى ويبقى مجهولًا، ويعرف باسمه الثانى، ويظهرنا هذا على أسباب إزالة اسم ملك ما من على جداريته، فمحو هذا الاسم كان يعنى قتله، وأنه لن يعود فى الأبدية، وما يسرى على الإنسان يسرى أيضًا على الإله رع، الذى كان له أسماء كثيرة، وظل اسمه الحقيقى مخفيًا ومحاطًا بأسوار الحماية النارية، لذا أرادت إيزيس معرفة اسمه لتزيد من سلطتها بين الآلهة.

 وتروى البردية المحفوظة فى متحف تورين “ترجمها الدكتور عبدالمنعم أبو بكر” أسطورة أسماء رع المخفية، ويرجع النص لحوالى عام 1250 قبل الميلاد:

“أسطورة الإله الأعظم الذى خلق نفسه من نفسه، والذى خلق السماوات والآرض والماء، ونسيم الحياة والنار، والآلهة والإنسان والحيوان، والزواحف والطيور والأسماك، ملك الآلهة والبشر، الذى لا تقاس حياته بالسنين، والذى لا يعلم اسمه الحقيقى هذا الإله أو ذاك.

والآن كانت "إيزيس" تلك المرأة الماهرة، لها قلب يفوق فى شجاعته شجاعة مليون قلب من قلوب الرجال، وكانت مهارتها تفوق مهارة مليون إله، ولم يكن هناك شىء فى السماء أو على الأرض لا تعرفه، فهى كـ"رع" الذى صنع كل ما على الأرض.

ودبرت هذه الآلهة أمرًا لتحققه لكى تعرف اسم الإله الأعظم، وكان الإله "رع" قد اعتاد أن يدخل كل يوم إلى قاربه على رأس بحارته، لكى يبدأ رحلته اليومية بين الشرق والغرب، وكانت قد تقدمت به السنون، وضعف تحكمه فى لعابه، الذى كثيرًا ما كان يسيل من شدقيه، ويتساقط على الأرض، فتناولت "إيزيس" بعضًا منه وعجنته بتراب الأرض، وشكلت منه ثعبانًا مقدسًا، وضعته فى طريق "رع" اليومى، الذى كان يسلكه حسب إرادته بين شطرى الوادى.

وفى يوم من الأيام خرج الإله المقدس من قصره، تحف به الآلهة الأخرى لكى يبدأ رحلته اليومية، فدبت الحياة فى هذا الثعبان ولدغه، فصرخ الإله صراخًا مدويًا من شدة الألم وتجاوبت السموات صراخه وصاح أفراد التاسوع متسائلين: ما هذا؟

ولكن "رع" لم يستطع لفرط ألمه وكثرة صياحه الإجابة على تساؤلهم، وكانت شفتاه ترتعشان، وأعضاء جسمه ترتجف، إذ تمكن السم من كل جزء منها، وعندما أخذ الإله يتمالك نفسه صاح فى أتباعه: أدركونى.. أغيثونى، أنتم معشر الآلهة يا من خلقتكم وأخرجتكم من جسمى.. اقتربوا منى لأحدثكم بما حدث لى.

لقد وخزنى واخز لا يعرفه قلبى ولم تره عيناى، ولم تصنعه يداى ولا أستطيع التعرف عليه من بين مخلوقاتى، إن إيلامه شديد لم أشعر بألم مثله، وليس هناك أشد إيلامًا منه، إنى شربف ابن شريف، أتيت إلى الحياة إلهًا، إنى عظيم ابن عظيم، اختار أبى اسمًا لى، لقد تعددت أسمائى واختلفت أشكالى، وأودعت صورتى آلهة مختلفة، واختار أمى وأبى اسمًا لى، وأُخفى هذا الاسم فى جسدى قبل ولادتى، حتى لا تستطيع قوة ساحر أو ساحرة أن تعرفه وتتغلب به علىّ... دعوا أولاد الآلهه يحضرون إلى.. أولئك الذين عرفوا بالحديث الطيب وعرفوا السحر، ووصلت حكمتهم عنان السماء.

فأتى هؤلاء الأولاد ولكن "إيزيس" حضرت معهم بدهائها، وفى حديثها نسيم الحياة كما لا يخلو كلامها من الألم، قالت:

ماذا حدث.. ماذا حدث.. ياأبى المقدس.. ماذا؟ هل وخزك ثعبان فحل بك الهزال؟ أو تجاسر أحد أبنائك ورفع رأسه أمامك؟ فإنى مستعدة أن أحطمه بسحرى النفاذ، وأجعله ينهزم عند أول نظرة من شعاعك.

ففتح الإله المقدس فمه وقص على "إيزيس" قصة الثعبان، وزاد أنه يكاد ينوء بما تحمله من الألم، ووصف نفسه قائلًا: أشعر ببرودة أشد من برودة الماء، أشعر بحرارة أشد من حرارة النار، ويغرق جسمى فى العرق بينما اهتز من شدة البرد.. هناك غشاوة على عينى ولا أستطيع الرؤية.

فقالت له "إيزيس": أخبرنى باسمك أيها الأب المقدس، لأن الإنسان لا يستطيع أن يحيا دون أن يذكرة فى تعويذة السحر..

فقال "رع": أنا ذلك الذى خلق السماء والأرض، ونظم الجبال فى سلاسل ممتدة، وخلق ما يعيش فوقها، أنا الذى صنع الماء، وخلق الثور للبقرة، وجعل لذة الجماع وسيلة للنسل.. أنا الذى خلق السموات ووضع أسرار الأفقين، حتى تتسع لأرواح الآلهة التى تحيا فيها، أنا الذى فتح عينيه حتى يكون النور، وأنا الذى أغلق عينيه حتى يكون الظلام، أنا الذى جعلت النيل يجرى من الجنوب إلى الشمال، ولكن أنا الذى جهل الآلهة اسمه الحقيقى، أنا الذى حددت الساعات حتى تكون الأيام، وأنا "خبرى" فى الصباح، و"رع" فى الزوال و"أتوم" فى المساء.

 ولكن الألم لا يزال على أشده، فقالت "إيزيس" لـ"رع": إن اسمك الحقيقى لم تذكره بين الأسماء التى قلتها، إذا أخبرتنى به خرج السم من جسدك، أعلم أن الإنسان لا يحيا إلا إذا نطق اسمه، ولكن آلام السم مازالت تحرق جسده، فكانت أقوى من لهيب النار.

فقال جلالة "رع": يا ابنتى "إيزيس" قربى أذنيك منى حتى يخرج اسمى من جسدى فيدخل جسدك، وهكذا تمكنت "إيزيس" من معرفة اسم "رع" ومن ثم قالت: اخرج أيها السم.. اخرج من جسد "رع".. اخرج من جسد "رع" المحترق، لأنى أقول التعويذة، إنى أنا التى آمر، إنى أنا التى أبعث بالرسالة، اخرج على الأرض أيها السم القوى، ولتعلم أن الإله الكبير قد أسر فى أذنى باسمه الكبير.. فعاش "رع" ومات السم من قول "إيزيس" الكبيرة سيدة الآلهة التى تعرف "رع" باسمه الحقيقى.