السباعى ونبوءات أرض النفاق
كان الراحل يوسف السباعى مدرسة من خلالها تشربت حب الأدب والإبداع، فرواياته المتميزة والمتنوعة استطاعت بأسلوبها الرقيق الساحر أن تخترق قلبى وتتسرب إلى داخله، وقد ظلمه النقاد حين صنفوه فى خانة الكتاب الرومانسيين متجاهلين أنه كتب الرواية الفانتازية والرومانسية والتاريخىة والواقعية والشعبية: نائب عزرائيل، إنى راحلة، فديتك يا ليل، البحث عن جسد، بين الأطلال، رد قلبى، طريق العودة، نادية، جفت الدموع، ليل له آخر، نحن لا نزرع الشوك، لست وحدك، ابتسامة على شفتيه، العمر لحظة، أطياف، اثنتا عشرة امرأة، خبايا الصدور، اثنا عشر رجلًا، فى موكب الهوى، من العالم المجهول، مبكى العشاق، شارع الحب، اذكرينى، ومن المسرحيات قدم أقوى من الزمن، أم رتيبة، ومن القصص نذكر بين أبو الريش وجنينة ياميش، يا أمة ضحكت، الشيخ زعرب.
وهو قبل هذا وبعده أديب سبق عصره فى روايته "أرض النفاق"، والتى كتبها من وحى الخيال، تكاد تكون اليوم حقيقة فعلية، وعندما بدأت بقراءة "أرض النفاق" لم أكن أتخيل أن أحداثها ستصير حقيقة هذا الزمن، والخيال الذى أضفاه السباعى على قصته والتسلسل العجيب للأحداث، شدت قارئه إلى الاستمرار فى القراءة وتقليب الصفحات حتى يصل إلى نهاية أحداث الرواية، فهل كان كاتبنا الكبير يستشرف آفاق المستقبل بروايته، التى تحولت إلى فيلم سينمائى من بطولة الفنان الراحل فؤاد المهندس؟
وقد تحققت نبوءة السباعى وصارت الأخلاق سلعة تباع وتشترى وأصبح الطلب على الجبن والخوف أكثر من طلب الشجاعة والمروءة والنخوة.
وعبقرية الكاتب فى هذه الرواية لا تتمثل فقط فى الفكرة التى طرحها، من تجارة الأخلاق وإمكانية تناولها وإمكانية استبدال فضيلة بأخرى، وإنما أيضًا فى حسن طرحه للفكرة بشمولية، فلم يسرد لنا موضوعًا واحدًا بل لفت الانتباه إلى موضوعات مرتبطة بشكل ما بموضوعه الأساسى، فتارة نجده يتناول قضية فلسطين والمحتل الإسرائيلى وتخاذل الحكام العرب عن نصرتها، وتارة أخرى يدخل بنا إلى عالم التسول وما بها من تنظيمات سرية، فهم أصحاب أملاك ومن يتصدق عليهم يستحق الصدقة لنفسه، وتارة ثالثة يتسلل إلى طبقات المجتمع كاشفًا ما يمارسه الفقراء من خجل وما يمارسه الأغنياء من إسراف وتبذير، وهذه التفريعات للقصة الواحدة خرجت من فكر عالم أديب سخّر إمكانياته العلمية لتثقيف القارئ.
وأجمل ما فى الرواية تلكم الكلمات التى اختتمها بها كاتبنا الكبير "يا أهل النفاق! تلك هى أرضكم، وذلك هو غرسكم، ما فعلتُ سوى أن طُفت بها وعرضت على سبيل العينة بعض ما بها، فإن رأيتموه قبيحًا مُشوهًا فلا تلومونى بل لوموا أنفسكم، لوموا الأصل ولا تلوموا المرآة ."
وما أحوجنا إلى تلمس هذه الكلمات لنواجه بذرة النفاق التى زرعت وترعرعت فى مجتمعنا وحان وقت وأدها.