الزمان
جريدة الزمان

مقالات الرأي

الأموال المجمدة.. قصة أنانية

-

بينما اندمج مدير البنك الهمام فى عمله، دخل عليه موظف صغير قائلًا: عفوًا يا فندم، هناك عميل جديد أمام شباكى ويريد أن يقابلك ليفتح حسابًا بمبلغ كبير، وقد حاولت إقناعه لأقوم بخدمته، ولكنه أصر على مقابلة المدير، أومأ المدير إلى الموظف الصغير برأسه موافقًا على استقبال العميل الجديد، مرت دقائق، ريثما قاموا بتوجيه الرجل إلى مكتب المدير، فلما دخل العميل مكتب مدير البنك قام الأخير مرحبًا بحرارة وراجيًا العميل أن يتفضل بالجلوس حيثما شاء فى صالون المكتب الوثير - ليكون على راحته– ثم رجاه أن يطلب شيئًا يشربه، فابتسم العميل طالبًا كوبًا من الماء، سكت المدير الهمام وتراجع فى مقعده ليبدأ العميل الكلام.

قال العميل: لقد جئت ببساطة لأفتح حسابًا شخصيًا لديكم، وليس لدى الكثير لأذكره، ولكنى آثرت أن أتم معاملتى على يديكم – عفوًا- لتفادى الإزعاج المحتمل فسامحنى أيها المدير، ولم يعلق المدير، وإنما رفع سماعة التليفون الداخلى ليطلب استمارة فتح حساب، مضت دقائق قليلة، ثم سمعت طرقات رقيقة على باب المدير، ثم أطلت سيدة لطيفة فى تؤدة وتقدمت بخطوات سريع إلى مدير البنك الأنيق البشوش الوجه والطلعة، بينما كان العميل مهمومًا بحقيبة معه راح يعالج ما فيها فى انتظار الاستمارة الموعودة، المقبلة.

صمت المدير فى مجلسه وهو يحمل استمارة فتح الحساب ويرمق العميل الجديد بنظرة فاحصة كنظرة الأطباء الجراحين ويحاول أن يستقرأ ملامح الرجل، فسابقة خبرات المدير العملية وموقعه المهم يضفر اهتمامه وأسلوبه ليأخذ منحًا حريصًا مدققًا، وقد مر به من العملاء الكثيرون الذين يسعون إلى لقاء المدير لهذا السبب أو لذاك السبب، وإن لم يدع الأمر إلى مقابلة المدير فى بعض الأحيان، ومن العملاء من يسعى إلى لقاء المدير ليشعر بالاهتمام، ويقضى مسألته فى سرعة ويمضى إلى حال سبيله، وعلى المدير وكل مدير فى كل مكان أن يتفهم الناس ويستوعب العميل، لأن العميل دائمًا على حق، ولأن مكسب البنك فى راحة العميل، وليس مكسب البنك فى تأديب العميل  أو توبيخه، حتى ولو كان العميل مخطئًا، وما أكثر المخطئين وما أكثر الجادين من الناس أيضًا.

 

لم تصل نظرات المدير المتفحصة القوية إلى شيء على وجه اليقين، فاستسلم للحظات المقبلة لترشده إلى كنه الزائر الغامض.

قال العميل الصامت: أريد أن أودع عشرين مليون دولار أمريكى فى حساب من فضلك! فتنفس المدير الصعداء ورسم ابتسامة صغيرة على وجهه الذى وخطته السنون وتركت آثارها عليه كما تترك الرياح آثارها على حواف الجبال والصخور رويدًا رويدًا، وراحت يد المدير تعمل فى سرعة ودقة وتعالج استمارة فتح الحساب لينضم هذا العميل الفخم إلى قائمة عملاء البنك الأثير، ودبت حركة فى المكتب الوثير الذى قلما اهتز هكذا بالحركة جيئة وذهابًا إلا لأمر جلل ينخرط فيه المدير الكبير بنفسه ويقضى فيه بخبرته الطويلة فى العمل وفى الحياة، فهناك احتياج لعد هذا المبلغ الضخم من المال، وهناك حاجة إلى الكشف على كل ورقة من أوراق المبلغ الكبير للتأكد من سلامتها، وللتأكد من عدم وجود أوراق من فئات متباينة القيم، وللتأكد من عدم وجود عملة ممزقة أو تالفة تلفًا يحول دون إمكانية التعامل فيها، ويلزم لهذه الأعمال عدد من الموظفين ذوى الهمة والخبرة، إذا أراد البنك أن يصرف العميل سريعًا.

تململ العميل فى جلسته وهو يرقب الجميع منخرطًا فى مهمة صامتة كتروس الساعة، والمدير الحاذق يرقب العميل من طرف خفى، بينما تعالج يده متطلبات الاستمارة فى صفحاتها الكثيرة دون تراجع أو تفكير، لأنه لا مناص من إتمام كل ذلك.

توقفت يد المدير عن العمل أخيرًا ورفع ناظريه إلى عميله المستقبلى، بينما يهم آخر الموظفين بمغادرة المكتب حاملًا ما تبقى من المبلغ المودع الكبير، وسكت المدير برهة متأملًا وجه ضيفه كمن يرجو أن تصل أفكاره إلى العميل دون ألفاظ ودون حرج.

عم المكان صمت مطبق لبرهة ملأها الانتظار المتبادل، حتى قطع العميل السكون السائد متسائلًا: هل تم المراد وتمت الإجراءات؟ أود أن أمضى إلى حال سبيلى، وتراجع المدير فى مقعده الرحب ليصل بظهره إلى ظهر المقعد ويسلم جسمه إليه بعد عناء دقائق طويلة من التركيز والقراءة والكتابة والتفكير، وأطرق إلى الأوراق التى أمامه فى إشارة إلى ما قد يكون محرجًا، فبادر العميل إلى السؤال مجددًا: هل هناك ما يمكننى المساعدة فيه أو إزالة الغموض عنه؟ فقال المدير: نعم، بقى استيفاء واحد أرجوك: بمن يمكننا الاتصال فى حال ...؟ وسكت المدير، قال العميل مقاطعًا: فى حال وفاتى تقصد؟!... قال المدير بهدوء: نعم، فقال العميل: لا أحد.