أين وفاء الأمة.. للبررة الأوائل؟؟!! «5»
هل تردوا غيبة ابنة الصديق ؟؟!! «الجزء الخامس»..
عائـــشة بنت خليفة رسول الله «صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم».. أبى بكر عبدالله بن أبى قحافة عثمان بن عامر.. أفقه نساء الأمة على الإطلاق.. زوج رسول الله الزاهدة العابدة الصوامة القوامة... التى اختارها الله تعالى لنبيه إذ رآها فى المنام كما جاء فى الصحيحين واللفظ لمسلم.. عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُرِيتُكِ فِى الْمَنَامِ ثَلاثَ لَيَالٍ، جَاءَنِى بِكِ الْمَلَكُ فِى سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتْكَ، فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ، فَإِذَا أَنْتِ هِىَ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، يُمْضِهِ»..
إنــها عائـــشة التى لم يتزوج «صلى الله عليه وسلم» من النساء بكرًا غيرها... وكانت تفخر بذلك... فعنها قالت: (يا رسول الله أرأيت لو نزلتَ واديًا وفيه شجرة قد أُكِل منها ووجدتَ شجرًا لم يؤكل منها .... فى أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: فى التى لم يرتع منها، تعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها) رواه البخارى .... وهى زوجته صلى الله عليه وسلم فى الدنيا والآخرة كما ثبت فى الصحيح...
إنــها عائـــشة أحب النساء إلى قلب النبى بعد السيدة خديجة «رضى الله عنها».. لما روى عن أبى عثمان أن رسول الله «صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم».. بعث عمرو بن العاص على جيش «ذات السلاسل».. قال: فأتيته.. فقلت: أى الناس أحب إليك؟... قال: عائشة.. قلت: من الرجال.. قال: أبوها.. قلت: ثم من؟ .. قال عمر ... فعد رجالًا فسكت مخافة أن يجعلنى فى آخرهم»... أخرجه الشيخان..
إنــها عائـــشة التى كان يداعبها «صلى الله عليه وسلم»... أكثر من غيرها من نسائه.. فعنها قالت: والله لقد رأيت رسول الله «صلى الله عليه وسلم» يقوم على باب حجرتي... والحبشة يلعبون بالحراب... ورسول الله «صلى الله عليه وسلم» يسترنى بردائه لأنظر إلى لعبهم من بين أذنه وعاتقه.. ثم يقوم من أجلى حتى أكون أنا التى أنصرف، رواه الإمام أحمد، وعن عروة بن الزبير أن عائشة رضى الله عنها أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده... فلما اشتكى وجعه الذى توفى فيه.. طفقتُ أنفث على نفسه بالمعوذات التى كان ينفث، وأمسح بيد النبى «صلى الله عليه وسلم» عنه ....
إنــها عائـــشة التى كان رسول الله «صلى الله عليه وسلم» يناديها «رضى الله تعالى عنها» بقوله: (يا عائش) تحببًا... وتحسنًا لمكانتها المميزة فى قلب رسول الله «صلى الله عليه وسلم»... ففى الصحيحين عن عائشة، قالت: قال رسول الله «صلى الله عليه وسلم»: يا عائش! هذا جبريل يقرئك السلام. قلت وعليك السلام ورحمة الله وبركاته»...
إنــها عائـــشة التى كان رسول الله «صلى الله عليه وسلم» يناديها بالموفقة لتوفيق الله تعالى لها بكل ما تقول أو تفعل رضى الله تعالى عنها.... روى أن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» قال: «من كان له فرطان من أمتى أدخله الله بهما الجنة.. فقالت عائشة: فمن كان له فرط من أمتك... قال: ومن كان له فرط يا موفقة......» ...
إنــها عائـــشة التى كان يلقبها بأم المؤمنين.. كغيرها من أمهات المؤمنين وبيان ذلك قوله سبحانه وتعالى: «النَّبِيُّ أَولَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وأُولُوالْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَولَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَولِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا» ...
إنــها عائـــشة هى التى خصها النبى «صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم».. بالدعاء.. فعن عائشة «رضى الله عنها» أنها قالت: «ما رأيتُ مِنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ طِيبَ النَّفْسِ قلتُ: يا رسولَ اللهِ ادعُ اللهَ لي، قال: «اللهمَّ اغفرْ لعائشةَ ما تقدَّم من ذنبِها وما تأخَّرَ وما أسرَّتْ وما أعلنَتْ»..... فضحكتْ عائشةُ حتى سقط رأسُها فى حِجرِ رسولِ اللهِ «صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ» من الضَّحِكِ... فقال: «أيسرك دعائي»... فقالتْ: «وما لى لا يسرنى دعاؤك»...فقال : «واللهِ إنها لَدَعْوتى لأُمَّتى فى كلِّ صلاةٍ».
لذلك صح عنه «صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم».. فيما جاء فى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى عن النبى «صلى الله عليه وسلم» قال: «كمُل من الرِّجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مَريم بنتُ عمران، وآسية امرأةُ فرعون، وفضلُ عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»...
ولمزيد فضلها ولعلو مكانها روى عن عَائِشَةَ .... قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم»: «يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ».... فَقُلْتُ: «وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» ... وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «وَهُوَ يَرَى مَا لا أَرَى»..
إنــها عائـــشة التى وهبها الله عز وجل ذكاءً وفطنة وسرعة الحافظة.. حتى قال فيها ابن كثير رحمه الله: «لم يَكُن فى الأُممِ مثلُ عائشةَ فى حِفْظها وعِلْمها، وفصاحتِها وعَقْلِها»... كيف لا؟؟!!.. وقد ترعرت فى بيت رسول الله، فى منزل الوحي.. ومهبط الرسالة.. منبع العلم.. غرفت منه ما شاء الله لها... من العلم الغزير والفقه الأصيل والحكمة البالغة والرأى الثاقب... كيف لا؟؟!!.. وأنها كانت ترى نور الوحى على وجه رسول الله .. فكيف لم يكن يغشاها نور رسول الله؟!!!... فحتى لحظات الخلوة .. كانت تحب أن تشاركه فيها.. حتى أنها ذات مرة حين دخلت عليه فى خلوته مع الله سقطت مغشى عليها.. فحملها النبى «صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم».. فأخرجها.. وحين سألوها عن ما حدث؟؟!!... فقالت: «كأن عمودًا من نور واصل إلى السماء»...
لذلك كان رسول الله حفيًا بها يعلمها ويعتنى بها ... قدر إقبالها على الإيمان وعلى الإسلام.. قدر ما كان يغرس فيها بكل قوته وبقدر ما يستطيع فحوى الإيمان وعظمة الإسلام... فقد كان يخرج بها فى مغازيه.. لذلك كانت أخبر الناس بتاريخ الرسول والمسلمين وغزواتهم ... إذ أنها كانت لصيقة له فى كل مكان كان ينتقل إليه... لينقل معه الإسلام ونور الله يعمر به وجه الأرض ويفتح به قلوبًا غلفًا ويشق به آذانًا صمًا.. وأعينًا عميًا..
هكذا كانت تقاسمه شظف الحياة وهى تراها تتبدل بنور رسول الله وهدايته اللذين هما من نور الله عز وجل ليكون لها نصيب منهما..
ما أصعب أن يكون.. وما أحلى ما يمكن أن يكون.. وما أعظم ما قد كان.. أن يفتح المرء أعينه على الدنيا.. أن تشرق نفسه على الحب الإلهي.. حين يعيش تنزيل الرحمات مع نزول الوحى على الأرض.. ليخلق إنسانًا كم هو رحيم وإن كان فى الوقت نفسه قويًا؟.. ليكون إيمانه آية يحكى عنها وتكون قوته فى الزود عن الدين رسالة لا يمكن أن تنتهى بنهايته أو بنهايتها...
كان نور الإيمان الذى اخترق قلبها باقترابها من نور الله والكتاب المبين .. فاستحقت أن تأخد الشرف العظيم.. نعم وسبحان الله.. أن ينتهى الوحى فى حجرها لتتساوى هكذا مع أم المؤمنين السيدة خديجة «رضى الله عنها وأرضاها».. جدة الحسنين سبطا الجنة ورحيقها وعبيرها ونسيمها .. تلك السيدة التى احضتنت الوحى باحتضانها لنبى الرسالة حين كانت له السند والظهير وصمام الأمان بمالها وحسبها ونسبها..
وكأن رسول الكريم هكذا كما لو كان يجهز من يأتمنه على تبليغ الرسالة حتى النهاية.. إذ أنها عاشت من بعده ما يقرب من خمسين عامًا..
مات رسول الله.. انتقل إلى جوار ربه.. فما زادها بعده إلا تمسكًا ويقينًا بأمانة الرسالة.. ألا يكفى أنها اللصيقة له .. ليكون لها من الحرمة التى تجعلنا نكرم رسول الله فيها؟؟؟!!!.... مات رسول الله وقد خلفها هكذا مرجعًا وحجة.. يلجأ إليها الجميع...
فكان الفاروق «رضى الله عنه» يحيل إليها كل ما تعلق بأحوال النساء .. أو بأحوال النبى فى بيته.. فلم يكن يضارعها فى هذا الاختصاص أحد من النساء على الإطلاق.. إذ نقل عنها وحدها بالفعل ربع الشريعة .. وهذا ما يؤكد ويقوله الحاكم فى مستدركه وصححه... كما أنها كانت تبين ما أخفى عن الناس جميعًا .. فعن أبى بردة عن أبيه قال: «ما أشكل علينا أصحاب محمد حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا»...
ومن هنا جاء قول الإمام الذهبيُّ فى مدح السيدة عائشة: «أفْقَهُ نِساء الأمَّة على الإطلاق،... ولا أعْلمُ فى أمَّة محمَّد، بل ولا فى النِّساء مطلقًا امرأةً أعلمَ منها».
وهكذا كانت بحق المرجع الكبير لكبار الصحابة فى المواقف والملمات.. تغنى الجميع بما لديها من علم وفقه عن سؤال الناس..
هذا وقد روت ما يزيد عن ٢١٠٠ حديث... كما أنها روت عن أبيها وعن عمر وعن فاطمة وعن سعد وعن حمزة بن عمرو الأسلمى وعن حدامة بنت وهب...
إنها عائشة واحدة من أمهات المؤمنين التى أنزل الله تعالى فى إعظامهن وفضلهن قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة يسمعه المؤمن فيمتلئ صدره إجلالًا لمن شاركن الرسول فى سرائه وضرائه وصبرن معه على شظف العيش وتحملن فى صحبته الكريم أشكال الأذى وأنواعها.. كما خففن عنه ما يجد من آلام..
لتكون هكذا تلك البيوت.. بيوت أمهات المؤمنين منافذ رحمة وأبواب خير وهدى.. حتى أنه لما انتقل الرسول الكريم.. رحمة العالمين.. إلى جوار ربه بقيت هذه البيوت مثابة للناس يقصدونها... متعلمين مستفتين أو ملتجئين فكانت بحق بيوتًا تهدى الحائر وتعلم الجاهل وترد الجائر وتحمى اللاجئ وتلبى الحاجة للمستغيث..
لذلك لبس الناس جميعًا على اختلاف طبائعهم الخلفاء فمن دونهم يخضعون لأزواج رسول الله خضوع الأبرار لأمهاتهم.. فلقد رفعهنّ الله إلى مقام تندق دونه الرقاب وأحاطهن برعاية وتقديس.. أذعن لهن بقية البيوت.. فكن بحق مدارس مفتحة الأبواب وجامعات يتعلم الناس منها جميعًا.. يقول تعالى: «يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا» سورة الأحزاب.. هذا بالنسبة لنساء النبي.. فما بال عائشة!!!..
لقد كان من رحمة الله بهذه الأمة أن أطال عمرهن بعد رسول الله .. فنقلن لأمته كثيرًا من سنته.. ومن فضل الله وحكمته أنه جعل من أزواج صاحب الرسالة.. السيدة عائشة التى أعادت سيرته المطهرة الهادية خمسين سنة تنشر تفاصيلها للناس كأن الوحى لم ينقطع وكأن أنوار رسول الله لا تزال بينهم.. لم يلم بها أفول ولا تحجبها ظلمة...
لذلك كان يتهافت الرواة عليهن من كل جانب فضلًا عن عموم الناس.. وتنافسوا فى الأخذ عنهن كل التنافس.. ولقد عقد «ابن القيم الجوزية» فائدة فى المفاضلة بين عائشة وفاطمة.. قال: «لا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة وأدت إلى الأمة من العلم ما لم يؤد غيرها.. واحتاج إليها خاصة الأمة وعامتها»..
ومع ما سبق ذكره من مناقبها التى لا تعد ولا تحصى إذ لا يمكن لهذه السطور القليلة أن توفيها حقها... فعلم وفضل وعقل وذكاء وفقه ومنطق عائشة كان كبيرًا جدًا وغزيرًا جدًا جدًا وعزيزًا جدًا جدًا جدًا.. فهى الناقلة عن رسول الله.. هى الناقلة لهذه الأمة المحمدية... فمن من نساء تلك الأمة فى زمانها أو فى أى زمان آخر؟؟!!.. استطاع أن يصل لتلك المكانة العظيمة... فهل هناك من وصفت بأنها «رجلة العرب» أى أنها رجلة الرأي؟؟!!.... فكان كلامها مسموعًا.. وحديثها ناقذًا.. ورأيها ثاقبًا.. وعقلها راجحًا.. ونظرتها لا تخيب.. أمنها الناس على دينهم.. لذلك كانت محط أنظارهم.. وعنايتهم.. كانت كبيرتهم..
هذا الوصف يعكس مدى ما وصلت إليه السيدة الطاهرة أم المؤمنين عائشة «رضى الله عنها»... من منزلة ودرجة وسمو ورفعة فى علمها...
هذا الوصف يدل على المكانة العظيمة والقيمة الكبرى والقامة العظمى لبنت الصديق أبى بكر رضى الله عنها وعن أبيها..
على الرغم من ذلك كما أشرنا إلا أنها تعرضت إلى ابتلاء شديد وفتنة كبيرة فى كثير من سنوات عمرها ... تعرضت وهى فى زمن النبوة حيث طعن فى شرفها وعرضها المنافقون فى المدينة.. فأنزل الله براءتها من فوق سبع سموات.... وقد قالت «رضى الله عنها»... كما فى الصحيحين: «ثُمَّ تحولتُ واضطجعتُ على فِراشي... والله يعلم أنِّى حينئذٍ بريئةٌ.. وأنَّ الله مُبرِّئى ببراءتي.... ولكن واللهِ ما كنتُ أظنُّ أنَّ الله منزلٌ فى شأنى وحيًا يُتْلَى... لشأنى فى نفْسى كان أحْقرَ مِن أن يتكلَّم الله فيَّ بأمْر... ولكن كنتُ أرْجو أن يرَى رسولُ الله «صلَّى الله عليه وسلَّم» فى النومِ رُؤيَا يُبرِّئنى الله بها... فواللهِ ما رام رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مجلسَه... ولا خرَج أحدٌ مِنْ أهل البيت حتَّى أُنزِل عليه.... فأخَذَه ما كان يأخُذُه من البُرَحَاء.... حتى إنَّه ليتحدَّر منْه مِن العَرَق مثل الجُمَان..... وهو فى يومٍ شاتٍ مِن ثِقَلِ القوْل الذى أُنزِل عليه....
قالت: فَسُرِّى عن رسولِ الله «صلَّى الله عليه وسلَّم» وهو يَضْحَك... فكانتْ أوَّل كَلمةٍ تَكلَّم بها أنْ قال: «يا عائشةُ.. أمَّا اللهُ فقدْ بَرَّأكِ»... قالت: فقالتْ لى أُمِّي: قُومِى إليه... فقلتُ: «واللهِ لا أقومُ إليه، فإنِّى لا أحْمَدُ إلاَّ اللهَ عزَّ وجلَّ....
قالت: وأنزَل الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ» سورة النور....
وفى هذه الواقعة وهذه البراءة الإلهية يقول الإمام ابن كثير: «فغار الله لها وأنزل براءتها فى عشر آياتٍ تُتلى على الزمان... فسما ذكرها.. وعلا شأنها؛ لتسمع عفافها وهى فى صباها.... فشهد الله لها بأنها من الطَّيِّبات.. ووعدَها بمغفرةٍ ورزق كريم»...
ومع هذه المنزلة العالية... والتبرئة العالية الزكية من الله تعالى... تتواضع وتقول: «ولَشَأنِى فى نفْسى أهونُ مِن أن يُنزِل الله فى قرآنًا يتلى»...
ألم يكن فى ذلك برهان عظيم أن هذه السيدة رضى الله عنها وأرضاها يسكنها إيمان عظيم.. لدرجة تسكثر على نفسها أن يبرئها الله عز وجل بنفسه سبحانه وتعالى.. ولم تغتر ولم يصبها الكبر .. ألم يكن فى ذلك دليلًا على أنها لا يمكن أن تنوى حقدًا أو عدوانًا لأحد من صحابة رسول الله... حتى وإن لم يساندها أحدهم فى شدتها.. ومهما يعز عليها نفسها إلا أن إيمانها وشخصيتها القوية أكبر من أن يوثر على موقفها.. إذ تربت وتأسست فى بيت النبوة.. ومن تربى فى بيت النبوة لا يمكن أن ينال أحد من إيمانه وعقيدته ودينه... لا بد وأن يفصل بين الهوى ومصلحة الدين الأمة .. فلا يمكن أن تسير وفق هواها ولا يمكن أن تحمل فى نفسها ما يكون صداه على الدين والأمة ... الدين الذى شهدت هدايته وعزته وشموخه .. ولا على حساب الأمة التى تعلم تمامًا أنها أحد أهم أسباب الأمانة فى الإبلاغ عن رسول الله «صلى الله عليه وسلم»...
حتى أدلل على حديثى هذا استشهد بقول الله فى كتابه المحكم آياته حين سبح نفسه كان فى موضعين اثنين من القرآن الكريم... فكان الموضع الأول فى سورة الأنبياء حين قال عز وجل: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ».. وهذا دليل على تنزيه نفسه عز وجل.. أما تنزيهه لنفسه الآخر سبحانه وتعالى ففى سورة النور يقول: «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ»... وهنا سبح نفسه فى تنزيه عائشة كما سبح نفسه لنفسه فى تنزيهه...
كيف بعد كل ذلك أصدق أن هذه الشخصية الكريمة المؤمنة العظيمة التى خصها الله تعالى بكريم ذكره فى كتابه ألا تعمل من أجل الله ورسوله ومن أجل الدين ومن أجل رفعة الأمة.. ليحكمها هواها مهما عز عليها نفسها فى شدة عظيمة لا تقبلها أى امرأة بحال من الأحوال!!!...
أيها الناس...
إن آل البيت وأزواج النبى وصحابته صحيح أنهم بشر.. ولكن بالتأكيد لن يكونوا كسائر البشر.. فدماؤهم الشريفة التى تجرى من رسول الله .. الذى انتزع من قلبه النكته السوداء.. إذن لابد وأن يكونوا مختلفين عن سائر البشر... لابد!!... حساباتهم مختلفة عنا.. وبالتالى يجب ألا نتعدى حدودنا وعلينا أن نعلم أن حساباتنا تختلف عنهم!!!... ومن الأدلة الدامغة الأخرى التى استوقفتنى ... والتى كشفت عن المعدن النفيس للسيدة عائشة.. ما كان من موقفها عند نزول آية التخيير.. والتى قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا» سورة الأحزاب..
قال ابن كثير رحمه الله: هذا أمر من الله لرسوله «صلوات الله وسلامه عليه» بأن يخَيّر نساءه بين أن يفارقهن، فيذهبن إلى غيره ممن يَحصُل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها... وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال.. ولهن عند الله فى ذلك الثواب الجزيل، فاخترن «رضى الله عنهن وأرضاهن» الله ورسوله والدار الآخرة... فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة...
وعن أبى سلمة بن عبد الرحمن، أن عائشة «رضى الله عنها» زوج النبى «صلى الله عليه وسلم» أخبرته: أن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه.... فبدأ بى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إنى ذاكر لك أمرًا، فلا عليك أن لا تستعجلى حتى تستأمرى أبويك»، وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمرانى بفراقه....
قالت: ثم قال: «وإن الله قال: {يا أيها النبى قل لأزواجك} إلى تمام الآيتين... فقلت له: ففى أى هذا أستأمر أبوي؟ فإنى أريد الله ورسوله والدار الآخرة.... قالت: ثم فعل أزواج النبى «صلى الله عليه وسلم» مثل ما فعلت...
بهذا الدليل الآخر أدافع عن السيدة عائشة دفاعًا مستميتًا وأنحاز إليها وأعلن عن انحيازى لها.. فكم أبكتنى وأنا أقرأ عنها وأحكى عن سيرتها.. إنها لا يمكن ومستحيل أنها تكن عداءً لمن نام فى فراش رسول الله نبيًا يفديه.. لا يمكن ومن المستحيل أن تحمل بغضًا للإمام على أبو الغاليين.. الحسنين وعقيلة بنى هاشم.. إنه الإمام علي.. الذى يكمل الصورة الشريفة الكريمة بعلاقته مع السيدة عائشة تلك الصورة الشريفة الكريمة لأقرب المقربين لنبى الإسلام والسلام.. لنبى الرحمة.. «صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وعلى صحابته» وحتى أحشر معه أو ألقاه...
إن شخصية الإمام على وموقفه وحلو لسانه وطيب كلامه وفلسفته الإيمانية ونظرته للحياة سوف تكون هى أكبر مدافع عن من أغلق رسول الله عينيه عن الدنيا عليها.. بين يديها.. وهى السيدة عائشة ...
ودليل آخر يؤكد أن تلك الصحبة اللصيقة لرسول الله .. بعد كل الإيمان ونوره الذى كان يظللهم .. يكفى قربهم من النبي... لئلا يكون بينهم الحب والرحمة الوئام.. لأنهم أناس يبحثون عن رؤية نور وجه الله الكريم.. بعد أن تمتعوا بخير متع الدنيا وهى رفقة الحبيب والشفيع..
أيها الناس..
إنهم قد علوا فى الدرجات وتعالوا فى المكانات .. فبالتأكيد لم يكونوا مثلنا حتى وإن كانوا بشرًا يطئون الأرض.. فإيمانهم بالله وصحبة رسول الله لا يمكن أن تجعل فى قلوبهم ما أصبح وبات بين أمة رسول الله اليوم من الحقد والغل والعداء والكراهية ... كم كنت أود أن نخرج عن عالمنا المعاصر ونحن نحكى عن عالم فاضل حتى وإن كان على الأرض ولو لثوانٍ.. كم كنت أود ونحن نحكى عنهم أن نراهم بقلوبنا ليس فقط كى نحاول أن ننقل عنهم الصورة الحقيقة التى كانوا عليها .. ولكن حتى نغسل أنفسنا .. أن نطهر أرواحنا .. أن نصطفى ألسنتنا.. من الدنيا وعبثها وأسباب فنائها ولو لثوانٍ.. ونحن نتناول سيرهم الشريفة. احترامًا وتقديرًا لرسول الله أو حتى حياءً ومهابة ورهبة وخشوعًا من الله سبحانه وتعالى وخشية غيرته عليهم عز وجل..
وهكذا أحب أن أؤكد هنا أن السيدة عائشة لها من المكان والمكانة.. التى استحقت بها أن تنال شهادة السماء... التى حملت براءتها ودافعت عنها وشهدت لها بالفضل كما أنها مع أخواتها من أمهات المؤمنين ارتضت الله ورسوله.. بعيدًا عن زخارف الدنيا وأطماعها... أفلا يرسم كل هذا صورة واضحة عن ملامح شخصية أم المؤمنين عائشة.. ويعطى عنها انطباعًا لا يخيب عنها ولا يبتعد عن الصواب ..
كل هذه السطور والذكريات المؤلمة وإن كانت من خلال سيرة امرأة.. إلا أنها امرأة كانت من أحب زوجات الرسول بعد السيدة خديجة...
كل هذه السطور رد على كل من سولت ولا تزال تسول له نفسه النيل منها.. وبكل أسف فى ذلك النيل بكل تأكيد إساءة بالغة لا أرتضيها على أحد أغلى الصحابة الذى لا يمكن أن يكون قد عدى السيدة عائشة.. ولكن المشكلة فيمن نقل التاريخ أو قرأوه أو يستقرئه.. للضرب فى الدين بالنيل من هؤلاء.. وتقييمهم بأحكام سائر البشر.. وأن ما بينهم مثل ما بيننا جميعًا.. وأنهم كسائر البشر!!!...
لا نزال مع السيدة عائشة فى الافتراءات والأكاذيب .. ومع الإمام على خير الأوصياء.. أبو الحسن والحسين قبل الحديث عن الفتنة الكبرى.. فى الحلقة المقبلة إن شاء الله...