الزمان
جريدة الزمان

مقالات الرأي

الحد الأدنى من الرجولة ..ألا تكون كاذبًا أشرًا

-

كنا نضحك كثيرًا عندما يتحدث "م" زميل الدراسة والمدرسة، ويروى لنا مغامرات طفولية كثيرة مما تفيض به قريحته، وكانت أعيننا تفيض بنظرة الاستغراب أحيانًا، ولكننا لم نجرؤ على مواجهته، ولم نرد ذلك أيضًا لكون الحديث طفوليًا لا طائل منه ولا هداف وراءه، فقد كان "م" يبرع فى تلاوة تلك الأحاجى البطولية علينا، ونحن صغار، وكيف أنه فعل الكثير وصال وجال - كما يقولون – دون أن يصاب بمكروه  أو يمسه إيذاء، كأحاجى أبو لمعة الفشار، وكان "م" شخصًا لطيفًا معجبًا بنفسه، ولا ضير فى القليل من الإعجاب بالنفس مما يبعث فى المرء النهضة وحب العمل وحب الإنجاز، كان صديقنا يحب نظرة الإعجاب فى أعين الناس، ولذا كثر كلامه وكثرت أحاجيه، ولا أعرف إن كان "م" قد هجر طبعه أو ظل متمسكًا به، حيث اختلفت بنا السبل وسلكتنا فى رحلات مختلفة إلى المستقبل، وعندما كبرنا وشببنا عن الطوق، عرفنا أن ما يخالف الحقيقة هو كذب، وعرفنا أن الكذب آفة غير مقبولة من أحد، وأن الرجل لا يكذب أبدًا فلا يوجد كذب أبيض ولا يوجد كذب أسود.

لم يكن فى أيامنا من وسائل التعارف والاتصال المطروقة الآن سوى التليفون الأرضى، ولم يكن هذا التليفون فى كل بيت ولا فى كل مكان طبعًا، ولم يكن هناك إنترنت ولا كمبيوتر فى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ولم يكن هناك كثير مما تفجر مع انتشار الكمبيوتر والإنترنت على المستويات الشعبية ولاستخدام الناس جميعًا، فيما يسمى بثورة الاتصالات التى جعلت العالم سوقًا كبيرة واحدة تقريبًا، وأغرت الكثيرين بالسعى إلى الشهرة، لم تغر ثورة الاتصالات فقط بالسعى إلى الشهرة، ولكن إلى الشهرة الواسعة المطبقة التى تدر من الأموال ما قد يصعب حصره وعده الآن، بينما كان الفنانون والسياسيون يجوبون المدن والقرى لأشهر طويلة لو أراد الواحد منهم أن يصل صوته إلى بضعة آلاف قليلة.

إن الكذب لم يبن شيئًا شريفًا، ولكن بعض الطامحين إلى الزهو والخيلاء والشهرة وإلى المال الكثير قد لا يتورعون عن خوض غمار معارك الكذب المزيفة، وقد لا يتردد بعض الراغبين فى السلطة فى حمل لواء الكذب ما دام قادرًا على حملهم ضع درجات إلى أعلى السلم، دون أو يتفكروا فى آلام السقوط من تلك الارتفاعات الشاهقة، حين تذوب درجات السلم المكذوبة، وقد سقط من تلك الارتفاعات السامقة كثيرون ليلقوا مصرعهم مكبلين بالحقائق والوقائع ومذهولين محملقين من هول ما حاق بهم، بعد قصير التمتع بهالات الفخار والنصر المزيفين.

إن المجتمعات الناجحة تقوم على الصدق والأمانة والإخلاص والشجاعة والفداء، ولا تقوم أبدًا على الكذب ولا على أكتاف كذابين مدعين أفاقين يتوقون إلى الاستيلاء على ما لا يخصهم من الفكر ومن الجهد ومن العطاء.

فى المجتمعات المتقدمة تكون آمنًا ما دمت صادقًا، وتفتح لك الأبواب، وتتاح لك الفرص كلها بلا حدود ولا تمييز، فإذا كذبت مرة كشف سرك وانتهى أمرك إلى غير رجعة أيًّا كنت، إذ كيف يؤتمن الكاذب على مال أو ممتلكات أو أبحاث أو إدارة أو غيرها؟ ولا جديد فى ذلك فى شأن الشعوب وطباعها منذ قديم الزمان، وقد رأينا أجمعين أن صدق الرسول الكرى محمد، صلى الله عليه وسلم، كان مفتاحًا فى إيمان الناس بما جاء به، صلى الله عليه وسلم، من التنزيل، ولم يجد أحد من الناس على رسولنا شيئًا من الكذب قط، ولم يعلم عنه أحد إلا صدقًا، ولم يسمع منه أحد إلا صدقًا، وقد ورد فى الأديان من مضار الكذب وافر من النهى والزجر مما لا حصر له ولا نهاية.

 

على المجتمع أن ينتبه إلى آفة الكذب - قبل غيرها - لخطورتها على الحاضر وعلى المستقبل بما تجبل الناس عليه من الجبن والخسة وقلة العمل وكثرة الملل والهروب من الحقيقة إلى الوهم وإلى الزيف لمعالجة ما يواجهونه من تحديات الحياة وصعابها، وعلى المجتمع بهيئاته الحكومية وغير الحكومية أن تنتبه إلى أن قضايا الأخلاق تمس البقاء والوجود ذاته، وعلى الجميع أن يبذل ما وسعه وأكثر للحض على البعد عن الكذب وتحرى الصدق والتزام طريقه التى لا عوج فيها .

ليس الحديث هنا وعظًا فى الدين، ولكنه تطرق إلى شرارة خطيرة يمكن لها أن تحرق كثيرًا من الأخضر الذى يتطلع إلى الحياة ورغدها، ولا تترك إلا قليلًا من اليابس الذى لا رجاء فيه لمستقبل أكرم، فكل كريم غالٍ وعزيز الثمن، وليست البراعة فى أن تحوز الشيء أو أن تصل ‘لى المكانة، ولكن البراعة أن تكون نبيلًا شريفًا فى نضالك، وأن تسلك إلى مأربك ما شرع من السبل والحيل، وأن تحوز ما كان لك حقًا، وأن تصل إلى المكانة التى لا ترقد على زيف، البراعة أن تعلم أن الحد الأدنى للرجولة، ألا تكون كاذبًا أشرًا، حفظ الله مصر ورئيسها ووفقه وقادتها إلى الخير.