جريدة الزمان

منوعات

التلفيق والفبركة والانتحال معضلة تضرب الإبداع في مقتل

-

تحولت الممارسات اللاأخلاقية لبعض الذين نسبوا أنفسهم لعالم الإبداع والكلمة إلى معضلة وتتضمن هذه الممارسات التي تجافي جوهر الإبداع وشرف الكلمة صورا متعددة من بينها "التلفيق والفبركة والانتحال والكذب".

وبعض الملفقين يحققون ثروات ومكاسب مادية كبيرة من ممارسات التلفيق والفبركة فيما يطرح البعض في الغرب السؤال: "هل بالوسع منح صكوك غفران لمن تورطوا في مثل هذه الممارسات"؟!.

وقد تأتي الإجابة عن هذا السؤال في كتب بأكملها أو أفلام سينمائية فضلا عن طروحات ثقافية عميقة مثل ذلك الطرح الذي تناولت فيه الكاتبة والناقدة كاثرين هيوز هذه القضية الشائكة وهي تعلق على فيلم جديد ظهر على الشاشة الكبيرة بعنوان:" آلا يمكنك أبدا أن تغفر لي؟" وقامت ببطولته الممثلة وكاتبة السيناريو الأمريكية ميليسا مكارثي.

ويتناول الفيلم قصة أحد المتورطين أو المتورطات في تلك الممارسات وهي الكاتبة والمؤلفة الأمريكية "لي إسرائيل" التي قضت في نهاية عام 2014 وكانت قد عمدت في "عصر ماقبل الإنترنت" لتلفيق أو "فبركة" رسائل منسوبة لنجوم ومشاهير في عالم الكتابة بالغرب مثل نويل كوارد ودوروثي باركر.

وواقع الحال أن هذا الفيلم الجديد اعتمد على سيرة ذاتية كتبتها "لي إسرائيل" قبل رحيلها وهي التي ولدت في نهايةعام 1939 في حي بروكلين بنيويورك باسم "ليونور كارول" غير انها اشتهرت ككاتبة باسم "لي إسرائيل" فيما تضمنت سيرتها الذاتية التي كتبتها بقلمها اعترافات بشأن تورطها في خطايا التلفيق وأقرت بأنها "ابتعدت عن امانة الكلمة ونزاهة القصد وسقطت في مستنقع الفبركة من اجل المال".

وتطرح كاثرين هيوز السؤال :"هل حان الوقت لمنح صك غفران لـ"لي إسرائيل" وهي التي اعترفت بخطاياها قبل الرحيل"؟ فيما تسلم بأن سؤالها لايسهل الإجابة عنه لأن ضحايا الممارسات اللااخلاقية للي إسرائيل كانوا في قبورهم وهي تنسج الأكاذيب حولهم وتشوه الحقائق بصورة اساءت كثيرا لكثير من الأبرياء الذين لم يكن بمقدورهم الدفاع عن انفسهم "لأن الموتى لايتكلمون".

واذا كانت لي إسرائيل قد جنت الكثير من المال بهذه الممارسات اللااخلاقية في عالم الكلمة فانها فقدت للأبد اعتبارها وتحولت لأمثولة لخيانة امانة الكلمة مع انها بالفعل كانت تمتلك قدرات تمكنها من ان تكون كاتبة كبيرة وان تعيش بالكلمة النزيهة في مستوى جيد بالمعايير المادية فيما يبقى سؤالها حول "الغفران" معلقا في محكمة الضمير وحكمة الأيام!. 

والغريب ان الممارسات اللااخلاقية في عالم الكلمة تتنوع بصورة مذهلة ، وقد تتضمن أكاذيب يطلقها البعض حول انفسهم مثلما فعل الكاتب الأمريكي دان مالوري صاحب رواية "المرأة في النافذة" التي احتلت مكانة متقدمة في قوائم اعلى مبيعات الكتب خلال العام الماضي.

فقد اعترف دان مالوري مؤخرا بأنه كان يكذب عندما قال انه مصاب بالسرطان ليتحول الأمر الى فضيحة فرضت نفسها على الصحف ووسائل الاعلام في الغرب فيما زعم بأنه لم يكذب للفوز بتعاطف الآخرين حسبما قال لمجلة "نيويوركر" التي تؤكد في المقابل "سجله الحافل بالأكاذيب".

وها هي المجلة الأمريكية المرموقة تثبت ان صاحب رواية "المرأة في النافذة" التي من المقرر ان تتحول الى فيلم سينمائي في هذا العام" كان كاذبا عندما ادعى من قبل ان والدته وشقيقه توفيا بسبب السرطان فيما حاول مالوري ان يدافع عن نفسه ليعلق اكاذيبه "على مشجب اصابته بنوع من الاكتئاب الحاد".

وفي خضم تداعيات الفضيحة الجديدة التي فجرتها مجلة "نيويوركر" الأمريكية " ، أجرت صحيفة الجارديان البريطانية سلسلة اتصالات مع مصادر مقربة لدان مالوري اتفقت على انه كان يدخل في روع من يتعامل معه في عمله وانشطته في الكتابة "بأنه يعمل وهو مصاب بسرطان في المخ" فيما درج هذا الكاتب على الكذب منذ سنوات طويلة واستهدفت شخصيات في دور النشر الكبرى للفوز بتعاطفها معه.

وليس ببعيد مافعله صحفي في مجلة "دير شبيجل" الألمانية الشهيرة عندما عمد "لفبركة قصص صحفية حول اشخاص وهميين" وعندما انكشفت اكاذيبه تحول الأمر الى فضيحة انفجرت في مطلع العام الحالي لتضع المجلة الكبيرة في مأزق ويجد هذا الصحفي نفسه مطرودا من"بلاط صاحبة الجلالة".

ويعيد ذلك للأذهان ماحدث منذ نحو خمس سنوات عندما وجد الكاتب والصحفى الشهير فريد زكريا مع محنة" ضبطه متلبسا بالانتحال" فيما كان هذا الكاتب الأمريكى والمنحدر من اصل هندى نموذجا "للكاتب النجم بمقاييس وسائل الاعلام او "الميديا الغربية ".

ومحنة هذا الكاتب الذى اعترف علانية بانتحاله مقاطع من طرح لكاتبة واكاديمية امريكية اقترنت بسلسلة من العقوبات السريعة رغم اعتذاره عما فعله وهى محنة تظهر الفارق الجوهرى بين خطيئة السطو على افكار الآخرين او كلماتهم وعباراتهم دون اى اشارة لذلك وبين التفاعل والبحث الحميد الذى يتيح امكانية عرض هذه الأفكار والكلمات مع الاشارة الصريحة والواضحة لصاحب الأفكار والكلمات.

وفريد زكريا الهندى الأصل يوصف بأنه من اشهر الكتاب والصحفيين الأمريكيين ودرس فى جامعتى يال وهارفارد وهو مؤلف لعدة كتب حققت مبيعات عالية كما أنه كاتب ومحلل ومعلق "مطلوب" فى الصحافة المكتوبة والشبكات التلفزيونية .

وكان فريد زكريا قد رشح كمستشار للشؤون الخارجية للرئيس الأمريكى الأسبق باراك اوباما الذى يقال انه من المعجبين بكتاباته وطروحاته وتعليقاته بل ان تقارير كانت قد ذهبت الى ان زكريا الذى لم يشغل هذا المنصب قد ظهر اسمه في فترة ما كمرشح محتمل لشغل منصب وزير خارجية الولايات المتحدة.

وهكذا فان فريد زكريا يبدو انه صاحب طموحات سياسية لا صحفية فحسب بل ويوصف بأن اراءه تلقى كل الاهتمام فى اروقة صانعى القرارات السياسية الأمريكية على الأقل في فترتي ادارة باراك اوباما.

وكانت مجلة "تايم" الأمريكية المرموقة قد اعلنت في غمار اتهامات الانتحال لزكريا عن تعليق مقالاته بعد كشف سرقته لعمل كاتبة اخرى بأحد مقالاته فيما حذت شبكة "سى ان ان " التلفزيونية حذو التايم وقررت تعليق برنامجه الأسبوعى غير انه عاد بعد فترة للمجلة والشبكة التفزيونية معا.

وبدأت القصة –حسبما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز-من خلال موقع "نيوز باسترز" الالكترونى الذى رصد تشابهات كبيرة بين مقال لفريد زكريا ومقال لكاتبة واكاديمية امريكية فيما لم تقصر المواقع المنتشرة على شبكة الانترنت فى نقل ماذكره هذا الموقع الاخبارى لتتحول القصة لفضيحة مدوية عبر الشبكة العنكبوتية.

واعتبر الكاتب والناقد الأمريكى ديفيد زوارويك ان " فريد زكريا يستحق العقاب الحاسم والسريع لأن الانتحال بات خطيئة مهلكة فى عالم الصحافة وكأنها لعنة لاخلاص منها" فيما اتخذ هذا الكاتب والناقد موقفا صارما حيال زكريا بقوله :"لايعنينى ان كان الشخص الذى قام بالانتحال ذكيا او غبيا وانما مايهمنى ضرورة عقاب كل من يسطو على افكار الآخرين او كلماتهم".

وشأنه شأن "لي إسرائيل" التي اعترفت بخطاياها" اعترف فريد زكريا بما اقترفه وقال :"كانوا على حق فقد ارتكبت خطأ جسيما واتحمل وحدى المسؤولية كاملة وأعتذر لأستاذة التاريخ جيل ليبور..أعتذر عن هذا الخطأ لمجلة تايم كما أعتذر لقرائى".

وتكشف نظرة للتعليقات على خبر وقوع فريد زكريا فى خطيئة الانتحال والتى نشرتها صحف ومواقع الكترونية على مدى سنوات عن شعور البعض بالمرارة حيال ما اعتبروه دورا تحريضيا لفريد زكريا فى الحرب الأمريكية على العراق فيما استعاد البعض فى العالم العربى وقائع سرقات ادبية وبحثية اكاديمية يندى لها الجبين واعتبر فريق اخر ان القضية اخلاقية فى المقام الأول. 

وإذا كان الكاتب والناقد ديفيد زوارويك قد ذهب فى سياق فضيحة زكريا الى ان الانتحال قد استشرى " فان قضية الانتحال فى الواقع قديمة وليست ابدا وليدة اليوم ثم انها تشمل مجالات متعددة من بينها الموسيقى والرسائل الجامعية والأبحاث العلمية والأوراق الأكاديمية كما شهدت وتشهد قاعات المحاكم دعاوى واتهامات بالانتحال .

بل إن اتهامات الانتحال طالت شخصيات تاريخية فى قامة شاعر العربية الأكبر أبو الطيب المتنبي فضلا عن دانتي أليجري صاحب "الكوميديا الالهية" والذي اتهم باقتباس هذا الأثر الأدبي الخالد في الغرب من "رسالة الغفران" للشاعر العربي الشهير أبو العلاء المعري.

وفي السنوات الأخيرة تحولت روايات شهيرة لكتاب في العالم العربي الى معارة ثقافية محتدمة وذروة جديدة في اتهامات "الانتحال والاقتباس" وذهب من يروج لتلك الاتهامات الى ان بعض الروايات الشهيرة في السنوات الأخيرة لكتاب في العالم العربي "منقولة عن روايات اجنبية بعضها يرجع لمنتصف القرن التاسع عشر".

و"الانتحال" أو الاقتباس الكثيف والواسع النطاق دون ذكر اسم المصدر مشكلة ثقافية عربية وغربية فيما يبدو أن "مسلسل الاتهام بالانتحال"قد يصيب مثقفين ومفكرين بارزين أحيانا بضرر لايستطيعون دفعه أو الرد على صاحب الاتهام لأنهم غادروا هذه الحياة الدنيا وانتقلوا للرفيق الأعلى منذ سنوات.

وإذا كان "مسلسل الانتحال متصل الحلقات" منذ زمن بعيد وطال اسماء كبيرة فى مجالات متعددة فى الغرب والشرق معا واذا كانت شبكة الانترنت بما تحتويه من معلومات غزيرة وسريعة تسهل الانتحال كما يرى البعض فإنها فى الوقت ذاته تسهل فضح القائمين بالانتحال.

على أية حال كان الحكيم المصرى القديم أمنوبى محقا عندما قال فى تعاليم أسهمت فى بناء الضمير الإنسانى منذ فجر التاريخ: "لاتستعمل قلمك فى الباطل ..لاتغمس قلما فى المداد لتفعل ضررا.. ولاتؤلف لنفسك وثائق مزيفة"..ويبدو أن الحاجة ملحة للإنصات لصوت هذا الحكيم المصري القديم في وقت باتت فيه الممارسات اللاأخلاقية لبعض من ينسبون أنفسهم للإبداع وعالم الكلمة تضرب الإبداع والكلمة في مقتل!..محنة يالها من محنة !.