جريدة الزمان

سماء عربية

”الكمبوشة” كيف ظهرت ولماذا تختفت؟!!! ( 2-2)

محمود عبدالغني -

عرضنا فى المقالة السابقة ما هية "الكمبوشة" وعوامل ظهورها، ودور ساكنها وأهميته فى العمل المسرحى ونستكمل هنا الحلقة الثانية والأخيرة من تاريخ "الكمبوشة"، لنرى كيف اختفت؟

يخبرنا التاريخ أن هناك أيامًا حاسمة تعبُر عبورًا هينًا غير ملحوظ‏،‏ ثم تدعونا الأيام لاستعادتها فى الذاكرة وإعادة تقييم أهميتها‏.‏. وكان عام 1951، عامًا فارقًا فى تاريخ "الكمبوشة"، ففى ذلك العام عاد الفنانان حمدى غيث ونبيل الألفى من بعثة دراسية إلى فرنسا أوفدتهما إليها وزارة المعارف فى عهد الدكتور طه حسين ضمن أول دفعة تخرجت من المعهد، ودرسا فى باريس بإشراف المخرج العظيم "جان لوى بارو" مدير مسرح الأوديون الملحق بالكوميدى فرانسيز‏، وكان حمدى غيث يقوم بإخراج مسرحية "سقوط فرعون"، وفى أثناء البروفة تلعثم أحد الممثلين الكبار فقال حمدى غيث بصوت جهير‏:‏

"من فضلكم احفظوا كويس علشان مش حنحط كمبوشة"

توقف كل ممثل فى موقعه وقال أسبقهم‏:‏ نعم يا حمدى؟

فقال حمدى:‏ "وقد أعذر من أنذر"

تلقت الكمبوشة ذلك اليوم وفى تلك البروفة إنذارًا حاسمًا بالفصل وإنهاء الخدمة‏، وسرى بين الممثلين قلق شديد، وقال غيث: "أوروبا ألغت الكمبوشة فلماذا تبقى فى مسرحنا؟"‏.

وهكذا كانت ليلة افتتاح المسرحية، هى ليلة نهاية التاريخ الكمبوشة التقليدية، وبداية التاريخ بالنسبة لتدريب الممثل على الحفظ وتنمية الحافظة‏.

ولكن الزمن يدور وكل يوم له حال وأحوال‏، فقد تزامن رفع الكمبوشة مع نهاية عصر الريبرتوار وحفظ الأدوار فى عديد من المسرحيات، التى كانت تقدم فى نفس الموسم‏، وأصبح الممثل يلتحق بمسرحية أو اثنتين فى الموسم الواحد‏، إذ صارت مسارح الدولة تقدم عددًا قليلًا من المسرحيات فى السنة‏،‏ بينما تقدم الفرق الخاصة مسرحية واحدة فى العام أو كل بضعة أعوام‏،‏ فانكمشت حاجة الممثل للحافظة وللملقن‏، وكانت هذه الحالة من أهم عوامل اختفاء الكمبوشة.

أما ثانى عوامل اختفاء الكمبوشة فيرجعها بعضهم إلى أنها كانت تعوق حركة المخرجين فى أثناء البروفات، وحركة الممثلين فى أثناء العرض، لذا تغير وضع الملقن وأصبح مكانه فى الكواليس.

وهنا لنا وقفة وملاحظة لابد من ذكرها، وهى أن اختفاء الكمبوشة لا يعنى أبدًا اختفاء الملقن، الذى هجر الكمبوشة إلى كواليس خشبة المسرح، وذلك لأهمية ارتباط الفنان نفسيًا بالملقن، وبالتالى لم يعد مجبرًا على البقاء فى الكمبوشة، خصوصًا فى الأعمال المسرحية الاستعراضية، لأنها تحتل مساحة كبيرة من خشبة المسرح، ووجود الملقن فى الكواليس بمثابة الأمان بالنسبة للفنان، الذى قد يتعرض أحيانًا لنسيان كلمة أو جملة، فيساعده الملقن على تذكرها، بشرط ألا يكون صوته واضحًا للجمهور فى الصالة.

ويرى بعض المتخصصين فى تاريخ المسرح أن الكمبوشة اختفت لتهذيب شكل المسرح، بعد التطوير الذى لحق أغلب خشبات مسارح الدولة، ففضلًا عن أنها كانت تمثل عائقًا أمام رؤية الجمهور وحركة الممثلين، فقد كانت أيضًا تضر بالشكل الجمالى لخشبة المسرح، وبالرغم من اختفاتها، فإن الكمبوشة كانت - وماتزال - من كلاسيكيات المسرح، مثلها فى ذلك مثل الستارة والكواليس والبناوير.

وانتهاء دور "الكمبوشة" أسفر عن عدة مساوئ، إذ أصبح الخروج عن النص إحدى وسائل الممثل لإتاحة الفرصة للملقن ليلاحقه، ولم يعد الممثل يهتم بالنص كثيرًا‏، فاهتز الانضباط والالتزام بحرفية الكلام، الذى كتبه شكسبير أو توفيق الحكيم أو حتى ألفريد فرج، الذى ألح دائمًا هنا وهناك على ضرورة الالتزام بالنص‏.

وعلى المستوى الشخصى أتمنى أن نعيد عهد الكمبوشة ونضع فيها الملقن‏ بسلطات مطلقة‏، فى يده نسخة النص المسرحى وفى يده الأخرى سيف مسرور جلاد هارون الرشيد فى حكايات ألف ليلة وليلة‏‏،‏ ليعود الاحترام للنص ويعود المكان بحق مركزًا للسيطرة‏.