جريدة الزمان

وا إسلاماه

مفتي الجمهورية: إحياء الحب واحترام الآخر واجب ديني

علي السعيد -

قال فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي علام -مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم: "إن إحياء قيم الحب والتسامح والتعايش واحترام الآخر قبل أن يكون واجبًا دينيًّا دعت إليه الديانات وأوجبته نصوصها؛ فهي قيم عليا وضرورة إنسانية أصيلة؛ إذ لا تنشأ حضارة ولا تقوم مدنيَّة ولا يتقدم البشر إلا في ظل الاحترام المتبادل، والتعايش السلمي فيما بينهم".

وأضاف أنه لأجل ذلك فقد أرست الأديان عامة؛ والدين الإسلامي الحنيف خاصة هذه القيم الإنسانية العالية مبدأ حياتيًّا أساسيًّا، وخلقًا دينيًّا راقيًا ومكونًا أساسيًّا من مكونات الشخصية المسلمة لا غنى للمسلم عنه في كمال إيمانه وتمام دينه، كما روى النسائي وأحمد عن أبي هريرة أن رسول ﷺ قال: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده».

جاء ذلك في كلمته التي ألقاها في أعمال اللقاء الثاني ضمن مبادرة "نتعايش باحترام متبادل"، بمقر وكالة أنباء الشرق الأوسط، حيث أوضح أن العرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غلب عليهم عبادة الأوثان، وطغيان القوي على الضعيف، والعصبية الفارغة سواء أكانت عصبية قبلية أم عرقية أم دينية، ومع هذه المثالب التي كانت منتشرة قبل أن يستبدل الإسلام بها تعاليمه السمحة، فلقد كان النبي ﷺ متميزًا بين قومه بتعايشه معهم، واختلاطه بهم في مواطن الخير والبر والنفع المجتمعي؛ مع احتفاظه بالمبادئ الأخلاقية السامية، الأمرُ الذي دعا قومه لجعل الأمانة والصدق عنوانًا عليه ﷺ فهو عندهم (الصادق الأمين)، وما نشأ ذلك إلا من خلال حسن المعاشرة وصدق القول ورقي المعاملة والرغبة المخلصة في نشر قيم الحب والسلام فيما بينهم، وهذا ما أثار في قلوبهم الإعجاب بأخلاقه، فجعلوه موضع ثقة مطلقة، وقد أشارت إلى ذلك السيدة خديجة عندما أتاها النبي صلى الله عليه وسلم يخبرها بأمر نزول الوحي عليه: والله لا يخزيك الله أبدًا، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»، والمشترك العام بين هذه الأخلاق هو التعايش الذي هو ركن ركين من تكوين شخصية النبي ﷺ.

وأضاف فضيلته أنه مع ما تعرض له المسلمون بعد مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اضطهاد مستمر من قِبل المشركين، إلا أن النبي ظلَّ متمسكًا بمبدأ التعايش واحترام الآخر؛ وذلك في ظل الوصايا الإلهية والمبادئ القرآنية كمثل قوله تعالى: ﴿لكم دينكم ولي دين﴾ وهو خطاب صريح لكلا الفريقين من المسلمين وغيرهم، في تأكيد قيمة التعايش مع الاختلاف في الدين والعقيدة، والحث على إرساء هذا المبدأ؛ نظرًا لدوره في تحضر الإنسان وعمارة والأرض.

وأشار مفتي الجمهورية، في كلمته إلى أن تنحية المشركين لهذا المبدأ كانت سببًا رئيسًا لحث النبي ﷺ للمسلمين على الهجرة إلى الحبشة مرتين؛ ثم حثهم على الهجرة العامة للمسلمين إلى المدينة المنورة لأجل تجنب الصدام الحتمي مع غير المسلمين ما أمكن، وكانت المدينة بيئةً مختلفة من حيث التعدد والتنوع القبلي والديني في جزيرة العرب قبل مجيئه ﷺ، فكان الأوس والخزرج صورة من صور الاختلاف القبلي، وكذلك كان اليهود والمسيحيون، بالإضافة إلى الوثنيين صورة للتنوع الدين، أضف إلى ذلك هجرة المهاجرين المسلمين ثم انتماء كثير من أهل المدينة إلى دين الإسلام، هذا بجانب الاختلاف العرقي، ولقد كان ذلك كله مثار النزاع والشقاق بل الحروب أيضًا، ومع هذا التنوع الشديد حرص المصطفى ﷺ على إرساء مبدأ التعايش واحترام الآخر قولًا وعملًا.

واستشهد فضيلته بما روي عن أبي يوسف عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس قِـبَـله، وقيل: قد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم -ثلاثًا-، فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: (يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام).

وقال فضيلته: "لقد كانت هذه الكلمة مؤذنة حقًّا بما جاء بعدها من خطوات عملية قضت على ما كان متوقعًا من دعوات طائفية وصراعات قبلية؛ إذ أقام عليه الصلاة والسلام رابطة (الأخوة) بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، فتفادت المدينة بذلك أي نوع من أنواع الصراع بينهم، وكذلك قضى رسول الله على الخلاف التاريخي بين الأوس والخزرج، ثم أعلن ﷺ صحيفة المدينة دستورًا لمن يعيش فيها من المسلمين وغيرهم، ليأتي القرآن مؤكدًا على ذلك كله باحترام قيمة التعايش السلمي القائم على الاحترام المتبادل، فيقول تعالى: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين﴾".

وأضاف أنه لم يكن شيء أدل على ما سبق من المدنية التي أضحت نظامًا للمدينة المنورة- من أن النبي ﷺ توفي ودرعه مرهونة عند يهودي، ليضرب نبيُّ الإسلام في تطبيق قيمة التعايش واحترام الآخر أعظم المثل في مجتمع كان الأصل فيه العداوة والصراع والتشرذم ونبذ كل ما يؤدي إلى الحب والتعايش، ليصبح بعد ذلك ما رسخه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قيم وأخلاق مثالًا يحتذى به في داخل المدنية وما حولها من قبائل العرب؛ وهو الأمر الذي امتنَّ الله به على المسلمين بقوله جل ذكره: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ".