جريدة الزمان

سماء عربية

الثنائيات فى الحياة

شوقى وحافظ.. شاعرا الوطنية

-

الثنائيات لها أكثر من وجه وأكثر من معنى وصورة، ووجودها متأصل فى تاريخ البشرية، بل إنها موجودة داخل النفس البشرية الواحدة يدلنا عليها القرآن الكريم فى قوله تعالى «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»، والثنائيات تتنوع فى الكون والحياة من حولنا، قد تكون محسوسة مثل الليل النهار، أو معنوية مثل الحب والبغض، وقد تتوازى، وقد تتماثل، وقد تتضاد أو تتصادم، وقد تحمل خاصية التلاقى، وقد تحمل خاصية التعاون، توجدها أو تؤثر فيها مجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والبيئية فى زمان ومكان معينين.

ولعل مجال الإبداع من أدب وفن وفكر أكثر مجالات بروز الثنائيات فى حياتنا، فثنائية جرير والفرزدق أثمرت فن النقائض، الذى يقوم على هدم بناء شعرى ببناء شعرى آخر، وبرغم استمرار نقائضهما قرابة 45 عامًا من التلاسن، إلا أن أيًّا منهما لم يكره الآخر، بل على العكس كانا يحترمان بعضهما، وثنائية الشاعرين توبة وليلى الأخيلية أثرت شعر الحب بقصائد رومانسية جميلة قبل أن يظهر مصطلح الرومانسية بقرون، والشيء ذاته فعلته أشعار ولادة بنت المستكفى وابن زيدون، برغم النهاية الحزينة لقصة حبهما.

وفى العصر الحديث كثرت الثنائيات فى حياتنا وتعددت ألوانها، ففى مجال الفن السينمائى ظهرت ثنائيات الرومانسية مثل ليلى مراد وأنور وجدى وشادية وكمال الشناوى، وثنائيات الدراما الإنسانية مثل الطفلة المعجزة فيروز وأنور وجدى، وثنائيات الخير والشر مثل فريد شوقى ومحمود المليجى، وثنائيات تعاون فنى – قلمى، مثل نجيب الريحانى وبديع خيرى، وإسماعيل ياسين وأبى السعود الإبيارى.

 وبفضل ثنائية محمد التابعى والفنان الأرمنى صاروخان، ازدهر فن الكاريكاتير، وتمصر هذا الفن على يد الثنائى مصطفى وعلى أمين والفنان محمد عبد المنعم رخا، ولعل أشهر ثنائية عرفها أبناء الجيل الحالى فى هذا المجال، ثنائى الكاتب الساخر أحمد رجب والفنان مصطفى حسين.

ولم يعدم مجال الأدب بروز ثنائيات عديدة جمع بينها عشق الكلمة، منها شوقى وحافظ، وحافظ وإمام العبد، وعبدالعزيز البشرى والشيخ البابلى، وغيرهم.

وأشهرهم بالتأكيد أمير الشعراء أحمد شوقى وقرينه شاعر النيل حافظ إبراهيم، إذ مثّلا ثنائية قامت على التنافس الشريف، فشوقى كان بمثابة شاعر القصر لكونه تربى فى قصر الخديوى إسماعيل، فيما كان حافظ شاعر النيل والوطنية الذى لم يعرف القصور ولا الأمراء، فالأول أقرب إلى شاعر البلاط الإنجليزى وليم وردزوورث، والثانى أقرب إلى شاعر بريطانيا الوطنى وليم شكسبير، فظروف النشأة ومنابع ثقافة كل منهما أوجدت فرقا فى تكوينهما وتوجهاتهما الفنية، وعشق الشعر أوجد نقطة التلاقى، والتنافس بينهما أثمر ثنائية فريدة، إذ لم يحل انتماؤهما إلى مدرسة الإحياء، التى وضع محمود سامى البارودى أسسها الأولية، دون اختلاف طرائقهما الشعرية وتنافسهما على عرش إمارة الشعر العربى، وكان السجال بين شاعرين متمكنين فى فنهما، وفى حين استغرق حافظ إبراهيم فى المسار التقليدى للقصيدة، جمع شوقى بين التقليدية والتجديد، فكان يقلد حينًا ويجدد أخرى، ومثّلت مسرحياته «مجنون ليلى» و«مصرع كليوباترا»، نقطة فاصلة فى اتجاهه التجديدى للأخذ بالرومانسية.

كان التنافس الشريف بين الشاعرين على أشده، إذ تباريا فى الذود عن وطنهما بالكلمة، وكل منهما يرى نفسه أهلًا لإمارة الشعر، وإن قدّر صاحبه ولم يبخسه حقه، وأسهم كون شوقى شاعر البلاط الملكى، وتنويعه فى شعره بين التقليد والتجديد فى حسم اللقب لصالحه، وبرغم أن حافظًا آمن أنه الأحق باللقب، إلا أنه اتخذ موقفًا نبيلًا، وبايع شوقى على إمارة الشعر بقصيدة عصماء قال فى مطلعها:

أمــــــــير القوافى قد أتيت مبايعًا ... وهذى وفود الشرق قد بايعت مــــــعى

فغن ربوع النيل واعطف بنظرة ... على ساكنى النهرين واصدح وابدعِ

 

ويبدع حافظ فى قصيدته بتضمينه أسماء أشهر قصائد شوقى فى أبياته:

«أمن أى عهد فى القرى» قد تفجرت  ..  ينابيـــــــــــع هذا الفكر أم «أخت يوشعِ»

أسالت «سلا قلبى» شئـــــونى تذكـــــــــــــرا  ..  كما نثرت «ريم على القاع» «أدمعى»

وسينيـــــــــة «للبـــــــــــــــحتـــــــــرى» نسختــــــــــها  ..  بسينيـــة قــد أخرســـت كلَّ مدعـــــــــــــــــى

شَجا «البحترى» إيوان كسرى وهاجه  ..  وهاجت بك «الحمراء» أشجان موجعِ

وبرغم مرور حقب على رحيل الشاعرين الكبيرين، لا تزال أشعارهما وصداقتهما النادرة تعطينا إلى اليوم قدوة ومثلًا، لما يجب أن يكون عليه الحال بين الثنائيات المبدعة، فقد ماتا جسدًا وبقيت ذكراهما خالدة.