الزمان
جريدة الزمان

مقالات الرأي

عندما تهاجر الدولة نفسها إلى بلد آخر!

ماهر المهدي -

ربما أسهمت إدارة الدولة خلال العقود الماضية فى خنق آفاق المستقبل أمام أبناء الشعب، فالحزب الواحد لم يترك لكثيرين فرصة كريمة، ولم ينس أن يغلق باب الأفق ورآه غير عابئ بالشعب وأبنائه الذين لم يجدوا طريقًا إلى الغد سوى الالتفاف حول بعضهم بعضا – كشجر اللباب – والاحتماء ببعضهم بعضا مما قد تأتى به الظروف والتقلبات حين يكمم المنطق والمعقول، ربما كان ذلك تفسيرًا كليًا لما تشهده مؤسسات الدولة من حالات الزواج المكثفة داخلها ومن شبكات النسب الكثيرة التى تمتد – فى بعض الأحيان – إلى عدة أجيال من عدة عائلات، ولا يقتصر ذلك النسب المتشابك اللبلابى داخل المصالح الحكومية على فئات معينة، ولكنه يشمل فئات كثيرة - حتى الفئات المعاونة أيضًا - التى أصبح منها من ينتمون إلى موظفى الدرجات العليا والكادر الخاص عبر سنوات طويلة.

ليس هذا التزاوج اللبلابى محلًا للحسد ولا محلًا للنقد فى نفسه، ولكنه قد يمثل شباكًا عائلية خطيرة تنمو وتتكاثر داخل شرايين المؤسسات الحكومية بشكل غير خاضع لضوابط ما، فالمشكلة أيضًا ليست فى تزاوج الناس، ولكن فى عدم خضوع هذا التلاحم لضوابط تحول دون تسلط هذه الشبكات على مسارات العمل وأفضلياته وعلى فرص الترقى وعلى وسائل التأديب والمحاسبة داخل مؤسسات الدولة، فمن يملك لشبكة عائلية من هذه الشبكات الكثيرة شيئًا حين يتكاتفون لاحتلال كافة المواقع الفعالة داخل مؤسسة ما وتوجيه الأمور إلى ما يخدم مصالحهم هم وأنسابهم وأقاربهم الكثيرين بالضغوط والواسطات والاتصالات المكثفة، ناهيك عن الوسائل الأخرى؟

إن تلك الشباك قد تساعد على حرمان الدولة من الكوادر الممتازة التى أنفقت عليها الدولة نفسها أموالًا طائلة بطريقين: الأول عن طريق "الهجرة" الطوعية لأجزاء من هذه الشباك نفسها إلى الخارج سعيًا إلى الحصول على إقامات دائمة وجنسيات دول أخرى، والثانى عن طريق "الهجرة القسرية" لبعض الذين أحبطوا وسدت الطرق فى أعينهم، فليست السعادة وليس الحبور فى الوطن ولا النجاح فى الوطن مدعاة للهروب إلى بلد آخر، ذلك أن تلك الشباك لتيسر لأنفسها الحصول على المهام الخارجية إلى كل موقع مهم، ثم تيسر لأنفسها العودة مرة ومرات أخرى متتالية إلى كل تلك المواقع، ليصبحوا بذلك أصحاب الخبرة الوحيدين، وليطوروا أنفسهم، وليصبحوا الأسماء الوحيدة المعروفة لدى الدولة ولدى المواقع المهمة التى يحتكرون التردد عليها، ولينجبوا فى الخارج ويربوا أولادهم فى الخارج ثم ليتركوا أولادهم وأزواجهم فى هذا الخارج أو ذاك بصفة دائمة فى هجرة عائلية لأسرة المسئول، بينما هو فى الخدمة، ويبقى الباقون فى المؤسسات مجرد بقية تسبح على هامش العمل وعلى هامش الحياة، وتشهد بأعينها تضاؤل فرصها فى كل شىء، لا عن تقصير منها أو جبن، ولكن لأن آخرين يبيحون لأنفسهم الاستيلاء على كل شىء وكل فرصة فى الداخل والخارج، والوطن هو النازف الخاسر.  

الواسطة والمحسوبية لا تفسد مقدرات الدولة فقط، ولكن تنخر فى جذورها من كل جانب وتصدر أولادها عصارة خالصة إلى دول أخرى فى هجرة مرئية على حساب الدولة وبأيدينا نحن، ليس هذا فقط، ولكن هذا المجرى يجرف معه فرص أناس آخرين فى التعليم وفى تطوير أنفسهم مهنيًا، مما قد يؤثر على أداء أجهزة الدولة بشكل جماعى متزامن، ويدفع الكثيرين إلى هجرة بلدهم هجرة المغتصب، أوليس ضحايا الهجرة غير الشرعية - فى البر والبحر - أناسًا ضاقت بهم سبل الحياة وضاقت صدورهم عن تحمل ما يرونه ويسمعون عنه من قرصنة القراصنة على فرص حياة الآخرين فى كل مكان؟!

إن مصلحة الوطن تكمن فى تكافئ فرص التطوير المهنى والذاتى لجميع أبنائه داخل إقليمه وإتاحة فرص الحياة لهم جميعا، وليهاجر بعدها من يهاجر فى رعاية الله، حفظ الله مصر ورئيسها ووفقه وقادتها إلى كل خير.