رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

سماء عربية

نجيب محفوظ فى «أفراح القبة» يحاكم القيم المتردية


 

فى عام 1922 عُرضت مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" للكاتب الإيطالى لويجى بيرندللو، على مسرح فاللى دى روما، وفيها قدم لأول مرة ما عُرف بالمسرح داخل المسرح، وفى نفس العام كتب مسرحيته الثانية هنرى الرابع، التى عالج فيها فكرة نسبية الحقيقة متضمنة موضوع الصراع بين الوهم والواقع.

 ونجيب محفوظ فى روايته "أفراح القبة" التى كتبها فى عام 1981، قدم عملًا متميزًا اعتمد فيه على تكنيك المسرح داخل الرواية، وناقش - من خلالها- نفس الفكرة "نسبية الحقيقة" بشخصيات لها ملامح وعلامات، جعلتها تتحرك على الورق وكأنها من لحم ودم.. استخدم تقنية الأصوات المتعددة، بديلًا للراوى فى شكله التقليدى، وكان قد سبق له استخدامها فى روايات: "ميرامار- المرايا - الكرنك - قلب الليل – حضرة المحترم - يوم قُتل الزعيم - حديث الصباح والمساء"، وفيها يصبح اسم الشخصية عنوانًا للفصل الروائى، ومن خلال التداعى وتيار الشعور، نتبين ملامحها وعلاقاتها بغيرها من الشخصيات الرئيسية والثانوية معًا.. فضلًا عن أنها تقدم أكثر من وجهة نظر تجاه الواقعة أو الحادثة نفسها، اعتمادًا على تعدد الرؤى، الذى يدعم المواقف المتباينة للشخوص.

مسرحية "أفراح القبة" التى كتبها عباس كرم يونس تُعادل واقع الشخوص الروائية الرئيسية: "طارق رمضان - كرم يونس - حليمة الكبش - عباس كرم يونس"، والشخصيات الثانوية: "سالم العجرودى المخرج - سرحان الهلالى مدير المسرح - فؤاد شلبى الناقد الفنى - تحية الممثلة - درية بطلة الفرقة"، كل هؤلاء رأوا أنفسهم فوق خشبة المسرح، بما اقترفوه فى الواقع، وكما رآه وأحسه المؤلف عباس كرم يونس.
هناك جريمة ارتكبها المؤلف حين زج بوالديه فى السجن، وقتل زوجته وابنه، هكذا اتهمه طارق رمضان الممثل بالفرقة، لأنه كشف عن ذلك فى المسرحية، فى حين أنه - واقعيًا- وخارج المسرحية ساعد والديه بعد خروجهما من السجن بأن فتح لهما "مقلى"، وماتت زوجته وابنه الصغير بعد أصابتهما بمرض التيفود، لكن الوهم اختلط لدى طارق رمضان بالحقيقة، فوجد نفسه مدفوعًا ومصدقًا أن عباس قاتل، وتلك هى المأساة التى تقوم عليها الرواية، بينما نرى المؤلف عباس كرم يونس يدافع عن نفسه وعن حياته، حين قام بفضح وتعرية الشخوص المحيطين به على مستوى الواقع، مبينًا علامات ضعفهم وعلامات قوتهم، فالبيت الذى عاش فيه تحول إلى نادٍ للقمار، وهذا هو سبب غضبه، ولذلك قام بفضحهم على خشبة المسرح، كلٌ رأى نفسه فوق الخشبة.

 أطلق على أبويه عبارة "القواد والعاهرة"، الكل شارك فى تناول المخدرات ولعب القمار، بمساعدة كرم يونس صاحب البيت وزوجته حليمة الكبش، فى الرواية كل شخصية تتحدث عن الآخرين من وجهة نظرها، وفى نهاية الرواية، يستطيع القارئ الإلمام بالتفاصيل الصغيرة المتعلقة بكل شخصية، ومن ثم يتواصل معها ويعيش وكأنه يراها.

طارق رمضان الشخصية الأولى فى الرواية، ممثل محدودالموهبة، يرتبط بعلاقة قوية بمدير المسرح، بسبب صداقتهما منذ الطفولة، يعيش الحياة كما يريدها، وبالشكل الذى يسعده، حتى لو لم يلتزم بالقيم الأخلاقية، يحب النساء ولا يتزوجهن، أحب تحية لكنه لم يتزوجها، رافضًا طلبها، لا يتورع فى أن يكون على علاقة بامرأة تأويه فى بيتها، ويعيش تحت جناحها، وحين جاءته الفرصة الوحيدة ليؤكد موهبته، صار عصبيًا ومنفرًا ورافضًا لدوره، حين شعر بأنه يمثل شخصيته الواقعية فوق خشبة المسرح، والتى كتبها عباس كرم يونس، شعر بقلق وجودى، وعاش صراعًا مستمرًا ودائمًا، بين الحقيقة التى يعرفها والوهم الذى يريده مدير المسرح، ويقنعه به لكى تنجح المسرحية، فالمسألة مجرد تمثيل، لم يقتنع بذلك، وأعلن عن كراهيته لعباس الذى وتّر حياته، خاصة بعد أن تزوج من حبيبته، ووترها أكثر بعد موتها، هنا لا يستطيع أن يكون إنسانًا سويًا، فهو يشعر دائمًا بالهوان، الذى يعيشه فى الظل ومعاشرة الصعاليك، والقبوع تحت جناح أم هانى خياطة الفرقة، لم يشعر بالسعادة حين نجح فى أداء دوره فى تلك المسرحية "اللعنة على أو لنجاح تأمله من لعب فى مسرحية عدو مجرم وأنت فى الخمسين من العمر".

وكرم يونس الشخصية الثانية، ليس على وفاق مع طارق رمضان، رغم زمالته له فى العمل بالمسرح، حيث يعمل ملقنًا، وفتح له بيته فى بداية العلاقة، وأسكنه فيه، وأتاح له فرصة اللقاء بتحية، وسهل له المشاركة فى لعب القمار وتناول المخدرات، يقال إنه مدين فى نشأته إلى أم عاهرة، تزوج من حليمة التى اغتصبها مدير المسرح، واستثمر عقدته إلى ممارسة كل ألوان القبح داخل منزله بمساعدتها، فحوله ناديًا للقمار، ومكانًا لتعاطى المخدرات، فدفع الثمن هو وزوجته بدخولهما السجن، وبعد خروجهما استقبلهما عباس ابنهما بوجه آخر، كارهًا تصرفاتهما، ورافضًا لعالمهما، وأصبح نقطة ضعفهما، ولأن طارق رمضان اتهم ابنهما بقتله زوجته تحية، وهدد بالإبلاغ عنه، أصبح من لحظتها عدوًا لهما معًا.

وحليمة الكبش الشخصية الثالثة فى الرواية، استسلمت لزوجها تمامًا، ولم تستطع مقاومة رغباته المجنونة حين حوّل بيته ناديًا للقمار، وحين سهل للعاملين فى المسرح، وعلى رأسهم مديره تعاطى الخمور والمخدرات فى بيته، وصارت حليمة منذ اغتصابها، فاقدة للبراءة مستلبة وضعيفة، وقبلت إذلال زوجها ولم تقاومه، كانت تعيش من أجل ولدها، إلا أنه خيّب ظنها حين فضحها فى مسرحيته، وحين تزوج من تحية، وحين اختفى.

والشخصية الرابعة - والأخيرة – هى عباس كرم يونس الابن الذى اعتبرته أمه ملاكًا، لأنه يرفض كل الممارسات التى تفعلها ويفعلها أبوه، لم يكمل تعليمه، لرغبته في أن يصبح مؤلفًا، تزوج تحية الممثلة الناشئة، التى تكبره بعشر سنوات، وعاش فى شقتها، وعمل فى المسرح ملقنًا، ليدر دخلًا، كل هذا ليهرب من حياته الضائعة مبتعدًا عن وكر الشياطين، لم يكن يحب طارق رمضان لعلمه بالعلاقة التى قامت بينه وبين تحية، نراه يكتب مسرحية أفراح القبة، بعد أن ماتت زوجته وابنه بمرض التيفود، فاضحًا فيها الجميع.
 تلك الشخصية تمثل النقاء، فى مواجهة القبح والتردى المسيطر على العالم المحيط به "البيت – المسرح"، يكتب خطابًا يعلن فيه انتحاره، وكأن نجيب محفوظ يريد التأكيد على أن القيم النبيلة لا تجد لنفسها مكانًا فى مجتمعنا، الذى أصابه القبح والتردى، ولذلك يجيء عنوان الرواية ليعكس تناقضًا واضحًا، لأن موضوعها ليس فيه ما يشير إلى الفرح، بقدر ما يشير إلى الحزن، وعلى حد تعبير سرحان الهلالى مدير المسرح، حين خاطب المؤلف بعد أن سأله لماذا سميتها أفراح القبة ولم يجبه، قال: "لعلك تشير إلى الأفراح التى تبارك الصراع الأخلاقى رغم انتشار الحشرات؟ أو لعله من أسماء الأضواء، كما نسمى الجارية السوداء صباح أو نور"، ولأن المسرح الذى عرضت فوق خشبته - تلك المسرحية-  كانت له قبة، جاء العنوان "أفراح القبة".