رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

سماء عربية

صفحات من تاريخ الحركة الوطنية المصرية (5)


أصبح سيد باشا مطلوبًا من السلطة البريطانية، وعاش حياة التنكر فهو الشيخ المعمم والأعرابى البدوى والفلاح وهو أيضًا الضابط الإنجليزى والجرسون اليونانى، وفى كل هذه الأشكال ظل متصلًا بالجهاز السرى.

سأل الحاج أحمد جادالله "كان اسمه الحركى الشيخ 13 يوليو" وهو الشخصية الوحيدة التى أؤتمنها سعد زغلول على إخفاء مذكراته وخطط الجهاز السرى، وكان معه زميله الطوبجى صانع الأحذية والمسئول عن الجهاز السرى للعمال، سأل سيد باشا: لماذا لا تشركونا معكم؟ فلا يكفينا أن نصنع القنابل فقط نريد أن نضرب أيضًا، ورد سيد باشا بعدم الممانعة، فقال الحاج أحمد: نحن نتولى الكفار وأنتم الخونة من المصريين، ولم يكن لإطلاق العمال لقب الكفار على الإنجليز بعدًا طائفيًا أو دينيًا، فقد كان الجهاز السرى يعج بالأقباط أمثال عريان سعد وغيره، ولكن اللقب لما كان يفعله الإنجليز فى المصريين من بشاعات تضارع ما فعله الكفار بمؤمنى قريش.

وقام سيد باشا بتسليمه مسدسين وكان لا يمر أسبوع إلا ويقتل 3 جنود وضباط إنجليز وكان مسرح العمليات هى الدراسة والحوض المرصود، وضمت غرفة عمليات المجموعة كلًا من النقراشى وسيد باشا وأحمد عبدالحى كيره - بعد الإفراج عنه بشهور - ويوسف العبد ومصطفى فاضل والطوبجى، وفى أسابيع قليلة من التحريات ووضع العيون داخل مقرات البوليس الحربى، استطاع الجهاز الحصول على صور وبيانات كل جواسيس الإنجليز والمخبرين السريين لهم وكان الفضل فى ذلك يرجع إلى ضابط فى الداخلية وكانوا من ضمن الجهاز السرى؛ وهكذا أصبح كل الخونة تحت رقابة الجهاز السرى وبدلًا من أن يراقبوا الجهاز أصبح أعضاء الجهاز هم من يراقبونهم.

فى أواخر شهر يناير 1920 حضر يوسف العبد وأخبر سيد باشا أن الخناق قد ضاق عليه، والإنجليز فى حالة من الجنون لإيجاده، وكانت القاعدة فى الجهاز السرى أن يختفى من مصر تمامًا من يضيق الخناق عليه، ويحل محله آخر غير معروف، وتقرر خروج سيد باشا إلى إيطاليا، وبالفعل تم الاتفاق مع رئيس البحارة الإيطالى ألبرتو نسترومو على إخفائه فى إحدى غرف المهام وإنزاله فى مدينة جنوة، مقابل 100 جنيه ذهب، وبالفعل وصل سيد باشا إلى جنوة، وعندما طلب الضباط "باسبوره" استطاع إقناع كل ضابط أن زميله قد رأه حتى خرج من الميناء، ثم ادعى أن "باسبوره" فقد منه وتحصل على أوراق ثبوتيه إلى حين إرسال "باسبور" جديد من مصر؛ ثم تمكن من عمل "باسبور" تركى فى ورشة زنكوغراف باسم مزيف، واستمر فى إيطاليا حتى جاءته رسالة من الجهاز السرى تطلب تهريب أحمد عبدالحى كيره لكشف أمره، بعد فشل عملية اغتيال عبدالخالق ثروت باشا، وتمكن سيد باشا من "باسبور" مزيف لكيره، وأرسله إلى الجهاز، وتم تهريب كيره إلى إيطاليا فى فبراير 1922، وتبع كيره تهريب كامل أحمد ثابت، وفى هذه الأثناء كان سيد باشا يرسل أسلحة وذخائر إلى الجهاز من خلال كبير البحارة الإيطالى ألبرتو نسترومو، وخلال إقامته فى إيطاليا تحصل سيد باشا على درجة الدكتوراه فى الطبيعة البحتة من جامعة روما؛ وبعد أن عاد سعد من المنفى وشكل أول وزارة وفدية وطنية عام 1924 أصدر عفوًا عن كل المقبوض عليهم والمنفيين، فعاد سيد باشا إلى مصر وعمل مدرسًا فى مدرسة الهندسة العليا براتب 35 جنيهًا، ولكن النقراشى والذى كان يشغل فى هذا الوقت منصب مساعد السكرتير العام لوزارة المعارف، قال له: "لو أعطيناك هذا المرتب سيقولون إننا نحابيك لصلتك بالثورة ولأنك من الجهاز السرى ولذلك سنعطيك راتب 20 جنيهًا فقط"، فرد سيد باشا: "نحن لم نشتغل للمرتبات وإنما اشتغلنا للموت".

وبعد حادثة مصرع السردار السير لى ستاك، حاول الإنجليز إلصاق التهمة بمحمود فهمى النقراشى وأحمد ماهر، وطلب إنجرام بك سيد باشا وقال له: نريد معرفة من شركائك فى الثورة؟ فأجابه: ليس لى شركاء، وعبثًا حاول إغراءه بالمناصب واعدًا إياه بالتعيين مساعد طبيب شرعى، فرد سيد باشا: أنا غير متخصص فى الطب الشرعى، فأغراه إنجرام بك بالمال وقال له سنعطيك 100 ألف جنيه إذا أثبت أن النقراشى وماهر شركاء فى الاغتيالات "مائة ألف جنيه فى عام 1925 كانت ثروة كبرى، فالجنيه المصرى كان أعلى قيمة من الجنيه الذهبى" فكان الرد: لا أعرف شيئًا، وتكررت المحاولة مع عريان يوسف سعد ويوسف العبد ورفضا العرض المغرى؛ ولم ييأس إنجرام بك فبعد أيام استدعى سيد باشا مرة ثانية وسأله هل تعرف أحمد عبدالحى كيره؟ فقال له نعم بلدياتى وسكنا معًا قبل الثورة، وحاول إنجرام خداعه قائلًا إن كيره اعترف أنك اشتركت مع النقراشى وماهر فى الاغتيالات فجاوبه سيد باشا يقول كيره ما يريد ولكن هذا لم يحدث، فقال له: سنرسل مستر جريفث وتذهب معه لتقنع كيره بالعودة إلى مصر، وتظاهر سيد باشا بالموافقة وأنه على استعداد للسفر إلى إسطنبول لإقناع كيره بالعودة إلى مصر ليشهد ضد النقراشى وماهر، مشترطًا أن يأتى والد كيره معهم فوافق إنجرام بك على هذا، وفى اليوم التالى أرسل رسالة عاجلة إلى كيره تقول "اترك إسطنبول فى الحال"، ثم قابل والد كيره وحكى له القصة وطلب منه رفض السفر بحجة المرض، وبالفعل سافر جريفث موظف المخابرات البريطانى إلى إسطنبول وحده يبحث عن كيره الذى كان قد اختفى منها.

وهكذا تنتهى قصة الأسطورة سيد محمد باشا، الذى كان واحدًا من وقود الثورة فى كل مراحلها، ولم يضعف أمام المال أو الوظائف والألقاب ولم يفتح فمه بكلمة واحدة لعشرات السنين، وعاش بعدها يشغل منصب مدير عام بوزارة التربية والتعليم، ولو كان قبل بعرض الإنجليز لتحول إلى مليونير، ولكن مال الدنيا كلها لا يضاهى عنده قطرة واحدة من حب مصر.