«الوعد المشئوم» فتح الباب لمذابح الأرض المحتلة
مرت علينا ذكرى وعد بلفور المشئوم منذ أيام، فى الوقت الذى يكابد الشعب الفلسطينى ومعه الدول العربية والإسلامية الويلات والمصائب على مر الأيام جراء ما اقترفت يد بريطانيا العظمى وقتها، ولا يزال الصهاينة يزرعون سرطان ما يسمى بدولة «إسرائيل» فى قلب العالم العربى والإسلامى على حساب شعب مسالم يدفع ثمن دفاعه عن الأرض من دماء أبنائه.
"عزيزى اللورد روتشيل، يسرنى جدًا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالى.. الذى ينطوى على العطف على أمانى اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهومًا بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التى تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن فى فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسى الذى يتمتع به اليهود فى البلدان الأخرى، وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علمًا بهذا التصريح".
تلك الكلمات التى سموها وعد بلفور وأطلق عليها العرب «وعد من لا يملك لمن لا يستحق»، الوعد الذى أعطى التصريح الوهمى لقيام دولة إسرائيل على الأراضى الفلسطينية، رغمًا عن إرادة العرب، هذا التصريح الذى أعطى وطنا لليهود فى الوقت الذى لم يكونوا فيه من سكان فلسطين، إذ لم يكن فى فلسطين من اليهود عند صدور التصريح سوى خمسين ألفًا من أصل عدد اليهود فى العالم حينذاك، والذى كان يقدر بحوالى 12 مليونًا، فى حين كان عدد سكان فلسطين من العرب فى ذلك الوقت يناهز 650 ألفًا من المواطنين الذين كانوا - ومنذ آلاف السنين - يطورون حياتهم فى بادية وريف ومدن هذه الأرض، ولكن الوعد المشؤوم تجاهلهم ولم يعترف لهم إلا ببعض الحقوق المدنية والدينية، متجاهلًا حقوقهم السياسية والاقتصادية والإدارية.
وتمكن اليهود من استغلال تلك القصاصة الصادرة عن آرثر بلفور المعروف بقربه من الحركة الصهيونية، ومن ثم صك الانتداب، وقرار الجمعية العامة عام 1947، القاضى بتقسيم فلسطين ليحققوا حلمهم بإقامة إسرائيل فى الخامس عشر من أيار عام 1948، وليحظى هذا الكيان بعضوية الأمم المتحدة بضغط الدول الكبرى، ولتصبح إسرائيل أول دولة فى تاريخ النظام السياسى العالمى التى تنشأ على أرض الغير، وتلقى مساندة دولية جعلتها تغطرس فى المنطقة، وتتوسع وتبتلع المزيد من الأراضى الفلسطينية والعربية، وتبطش بمن تبقى من الشعب الفلسطينى على أرضه دون رحمة.
ولا تزال فلسطين تعانى من نتائج وعد بلفور حتى يومنا هذا كونه فتح بوابة العبور لهجرة اليهود من جميع أنحاء العالم باتجاه فلسطين، وما تلاه من تهجير قسرى للفلسطينيين من قراهم، ووقوع العديد من المجازر مثل مذبحة دير ياسين وصبرا وشاتيلا، وما تبع ذلك من تقسيم لفلسطين من إقامة حواجز فى الضفة الغربية، وحروب وحصار فى قطاع غزة، وانتهاكات بحق مدينة القدس ومقدساتها والأراضى المحتلة عام 1948 والانتهاكات التى لم تتوقف حتى اليوم.
ويمكننا على سبيل المثال وليس الحصر ذكر ما حدث فى مخيمى صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين إذ وقعت المذبحة التى استمرت لمدة ثلاثة أيام على يد المجموعات الانعزالية اللبنانية المتمثلة بحزب الكتائب اللبنانى وجيش لبنان الجنوبى والجيش الإسرائيلى، وعدد القتلى فى المذبحة لا يعرف بوضوح وتتراوح التقديرات بين 750 و3500 قتيل من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين العزل من السلاح، أغلبيتهم من الفلسطينيين ولكن من بينهم لبنانيون أيضًا.
ومذبحة دير ياسين فى قرية دير ياسين، التى تقع غربى القدس فى 9 أبريل عام 1948 على يد الجماعتين الصهيونيتين "أرجون وشتيرن"، أى بعد أسبوعين من توقيع معاهدة سلام طلبها رؤساء المستوطنات اليهودية المجاورة ووافق عليها أهالى قرية دير ياسين، وراح ضحية هذه المذبحة أعداد كبيرة من السكان لهذه القرية من الأطفال، وكبار السن والنساء والشباب. ويتراوح عدد ضحايا المذبحة ما بين 250 إلى 360 ضحية تم قتلها، وكانت مذبحة دير ياسين عاملاً مهمًا فى الهجرة الفلسطينية إلى مناطق أُخرى من فلسطين والبلدان العربية المجاورة لما سببته المذبحة من حالة رعب عند المدنيين، ولعلها الشعرة التى قصمت ظهر البعير فى إشعال الحرب العربية الإسرائيلية فى عام 1948، وأضافت المذبحة حقدًا إضافيًا على الحقد الموجود أصلًا بين العرب والإسرائيليين.
ونتج عن وعد بلفور ازدياد قوة الحركة الصهيونية، وتغير نظرة اليهود فى أوروبا إليها، فقد كان أكثر يهود أوروبا بما فيهم يهود بريطانيا لا يتجاوبون مع فكر الحركة الصهيونية، ويميلون لاستمرار ما هم عليه من الاندماج فى مجتمعاتهم الأوروبية، وكان من اليهود من يرى انتظار ظهور ملك يقيم لهم دولتهم التى يحكمون منها العالم دون أن يسعى اليهود لإقامتها من قبل أنفسهم قبل ظهور ملكهم الموعود، ولاسيما أن فكر الحركة الصهيونية يوافق ميول أعداء السامية الذين يتمنون التخلص من اليهود فى أوروبا.
ففى الوقت الذى انعقد فيه "مؤتمر بال" الصهيونى بسويسرا لتأسيس الحركة الصهيونية عام 1897م كان ينعقد مؤتمر "مونتريال" بكندا، الذى عبر عن موقف اليهود فى أمريكا الشمالية على النحو الآتى: "إننا نرفض كامل الرفض كل مبادرة لخلق دولة يهودية، إن أية محاولات من هذا القبيل تنطوى على مفهوم خطأ لرسالة الشعب اليهودى".
جاء «وعد بلفور» أشبه بنقطة تحول فى تاريخ الحركة الصهيونية، إذ أسهم فى القضاء على الأصوات التى كانت تعارض الفكرة الصهيونية بين اليهود لذا اندفع اليهود بعده لتوحيد جهودهم ومضاعفتها، بعد أن وجدوا دولة كبيرة بحجم بريطانيا تتحمس لمشروعهم، لذا تقدموا ببرنامج خاص لإدارة فلسطين وتوطين اليهود فيها، فكانت فكرة تأسيس الوكالة اليهودية، وتأسيس شركة ذات امتياز لشراء الأراضى، وتوطين اليهود المهاجرين إليها، ومن خلال ذلك يكون تقديم المشورة والمعاونة فى إدارة فلسطين، والشؤون الاقتصادية، والاجتماعية، وغير ذلك من الأمور التى تؤثر فى إنشاء الوطن القومى اليهودى ومصالح السكان اليهود فى فلسطين، الذين يبغون المساعدة فى إنشاء الوطن القومى اليهودى، وعليه بدأت أفواج الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
وما يحصل فى الوقت الحالى على الساحة الفلسطينية من انقسام يندى له الجبين هو فى المحصلة ما رسمت له بريطانيا عبر وعد بلفور بزرع الاحتلال الذى يفرق بين أبناء الشعب الفلسطينى ويغذى الانقسام بطرق ماكرة وذكية، الاحتلال هو المستفيد الوحيد من تراجع اللحمة الداخلية الفلسطينية ولا يجوز ترك الاحتلال يلعب على تناقضاتنا ويعمقها بل العكس هو المطلوب.
نجاح بعض المؤسسات الحقوقية فى ملاحقة مجرمى الحرب الصهاينة عبر رفع القضايا فى المحاكم الأوروبية يشكل سابقة يستفاد منها لدى الشعب الفلسطينى فى ملاحقة بريطانيا، لأن جريمتها لا تسقط بالتقادم لاستمرارها ما دام الاحتلال موجودًا على الأرض الفلسطينية، وهذا بدوره لا يعنى وقف أى شكل من أشكال المقاومة التى كفلتها القوانين الدولية نفسها التى تجيز للشعب المحتل أن يدافع عن نفسه ويدرأ خطر الاحتلال بالطرق التى يرتئيها للتخلص منه وطرده.

