إلهام شرشر تكتب: «الحج» مؤتمر الوحدة السنوى يصــــنع أمـــــــةً واحــــــدةً من شعـــــوبٍ شتى

لازالت رحلة الحج مليئةً بالدروس التى أصبحت أمتنا فى أمس الحاجة إليها، لا سيما فى هذا الزمان الغابر الذى تعيش فيه الأمة الإسلامية حالةً من الضعف والوهن والصغار، وعلى رأس هذه الدروس التى ذكرناها فى العدد السابق إجمالًا لكنها أبت إلا أن يُفرد لها مقالًا منفردًا (درس الوحدة) الذى كم حثتنا عليه الآيات الواضحات، وحذرتنا من التشبه بهؤلاء الذين تفرقواْ واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وهو درسٌ يؤكد ما سبق أن قلناه بأن الحج ليس مجرد حركات وسكنات، بل دورةٌ تدريبيةٌ مكثفةٌ وإعادة ضبطٍ للإنسان إن صح التعبير.
نعم إن الوحدة هى أبرز وأعظم وأجل دروس الحج، إذ مظاهره فى تلك الرحلة الإيمانية كثيرة، فهو مؤتمرٌ إيماني، واجتماعٌ عالمى ودولى دوري، فضلًا عن كونه ركنٌ إسلامي، يجتمع فيه المسلمون من كل حدبٍ وصوب، ملبّين نداء ربهم، ومتجردين من كل فوارق الدنيا وزينتها.
حقًا إنه لمحفل رباني، تتجلى خلاله مظاهر الوحدة الإسلامية فى أبهى صورها، راسمةً لوحةً فريدة من التآخى والمساواة والهدف المشترك، وتتعدد هذه المظاهر لتشمل كل جانبٍ من جوانب هذه الفريضة العظيمة.
وفى مقدمتها وحدة المناسك.. ففى الحج توحّد الأفعال والأقوال فى أداء المناسك، وجميع الحجاج، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم، يؤدون ذات الأعمال فى ذات الأوقات وبنفس الهيئة، إذ يبدأ الجميع بالإحرام من المواقيت المحددة، متجردين من ثيابهم المخيطة، ليلبسوا إزاراً ورداءً أبيضين، ثم يطوفون بالبيت العتيق سبعة أشواط، ويسعون بين الصفا والمروة سبعاً، ويقفون جميعاً على صعيد عرفات فى يومٍ مشهود، ثم يبيتون فى منى ويرمون الجمار..... كل هذا التناغم فى الأداء يذيب الفوارق الفردية ويصهرها فى بوتقة العبودية لله وحده، مما يعمق الشعور بالأخوة والمحبة الصادقة فى النفوس.
ووحدة الهدف والغاية.. تؤكد أن القلوبٌ تهفو لرضوان الله تعالى، إذ يجتمع ملايين المسلمين فى بقعة واحدة، لا يجمعهم نسب ولا عرق ولا مصالح دنيوية، بل يجمعهم هدفٌ أسمى وغايةٌ أنبل، ألا وهى طلب مرضاة الله عز وجل، والفوز بمغفرته ورضوانه.
حيث تأتى الوفود من كل فجٍ عميق، قلوبهم يحدوها الأمل فى القبول، وتعتريها الخشية والرجاء، تلهج ألسنتهم بدعاءٍ واحدٍ وتلبيةٍ موحدة: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". هذه الوحدة فى الهدف والغاية تجعل من الحج مدرسةً لتوحيد صفوف المسلمين وتعزيز التعاون والتآخى بينهم.
ووحدة المشاعر والملابس... شاهدةٌ على التجرد والمساواة، فالإسلام يفرض على الحجيج التجرد من كل مظاهر الزينة والتفاخر الدنيوي، فملابس الإحرام الموحدة، تزيل كل الفوارق بين الغنى والفقير، والحاكم والمحكوم، والقوى والضعيف.. الكل سواسيةٌ كأسنان المشط أمام ربهم، لا يتميز أحدهم عن الآخر إلا بالتقوى.
هذا المظهر الخارجى الموحد يرسخ مبدأ المساواة المطلقة ويوحد المشاعر، حيث يشعر الجميع بأنهم جزءٌ من كيان واحد، متجردين من أهوائهم ومصالحهم الشخصية، خاضعين لسلطان الله تعالى.
ووحدة القبلة والمعبود... تلفت أنظارنا إلى ضرورة الاتحاد، ففى الحج -كما فى سائر العبادات- يتجه المسلمون جميعًا إلى قبلةٍ واحدة، وهى الكعبة المشرفة، هذا التوجه المكانى يرمز إلى وحدة العقيدة والعبادة، فالرب واحد، والدين واحد، والقبلة واحدة.
كل هذه الرموز تجتمع فى موسم الحج لتؤكد أن المسلمين أمة واحدة، رغم اختلاف أوطانهم وتباعد ديارهم.
إن التلاقى والتعاون فى هذه الرحلة الإيمانية – رحلة الحج- يجعل منها فرصةً عظيمة للتعارف بين المسلمين من شتى بقاع الأرض، ويفتح آفاقاً واسعة للتشاور فى قضايا الأمة، والتعاون على مصالحها وتدارس أحوالها، والسعى لحل مشكلاتها بروح من الأخوة والتعاضد.
لقد باتت لدينا قناعةٌ راسخة بأن الحج ليس مجرد شعائر تؤدى، بل هو مدرسة متكاملة لتربية الأمة على الوحدة والتآخى والمساواة، وتذكيرٌ دائمٌ بأن قوة المسلمين وعزتهم تكمن فى اجتماع كلمتهم وتوحيد صفوفهم تحت راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، فالاعتصام سبيل القوة والنصر، والتفرق والاختلاف سبيل الضعف والهوان، وما ارتفعت أمةٌ إلا بالوحدة والتلاحم، لذا حثنا القرآن وسنة النبى العدنان عليه أفضل الصلوات وأتم السلام على هذ التمسك بالتلاحم والتعاضد، وحذرتنا من الاختلاف والتنازع، قال تعالى فى كتابه العزيز: «واعتصموا بحبل الله جميعًا ولَا تَفرّقُوا»، وقال تعالى: «ولَا تَنَازَعُوا فتَفْشَلُواْ وتَذْهَبَ رِيحُكُم»، وقال صلى الله عليه وسلم للصحابة فى حديث بن مسعود: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم) رواه مسلم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوحد صفّنا، ويرفع رايتنا، ويجمع شمل أمتنا، ويحفظ بلادنا، ويجعل دائرة السوء على الماكرين.