رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

سماء عربية

صفحات من تاريخ الحركة الوطنية المصرية (2)

 

صفحات من تاريخ الحركة الوطنية المصرية (2)


سيد باشا.. وجماعة اليد السوداء


مصطفى إبراهيم طلعت

 

فى الحلقة السابقة تحدثنا عن شخصية سيد محمد باشا، وكيف غضب لتهكم نائب ملك بريطانيا "السير ونجت" على سعد زغلول ورفاقه وقوله لسعد "أن مصر لا تريد الاستقلال وشعب مصر لم يوكلك للحديث عنه"، هكذا فكر وتحدث السير ونجت، ولكنه لم يدرك أنه يواجه ثعلبًا عجوزًا، جزَّ على أسنانه وقرر رد الإهانة بألف صفعة، وإحالة حياته إلى سلسلة من الكوابيس، هو وكل أساطين بريطانيا العظمى.

كان 13 نوفمبر بداية معركة غير متكافئة لكنها حامية الوطيس، إذ جمع سعد أفكاره وقرر طبع عشرات الآلاف من التوكيلات ليوقع عليها كل الشعب المصرى.

 

تحرك سيد محمد باشا بحميته ووطنيته للعمل ليلًا نهارًا، على أكبر عدد من التوكيلات فى كل مدن البلاد وقراها، وحتى الأودية البعيدة ولم يترك رجلًا أو امرأة أو شيخًا، ألا وأقنعه بالتوقع على التوكيل لسعد، ومن لا يعرف الكتابة كان يبصم عليها، ومع كل توقيع أو بصمة يزداد الشعور الوطنى حماسة، وتزداد التوقيعات والتوكيلات ويزداد الأمل أكثر فأكثر، ولعل البعض يظن أن هذا الأمر كان هينًا، وربما يكون كذلك لو أنه جرى فى جو من الحرية، لكن الإنجليز والسلطة المصرية كانا يفعلان الأفاعيل لمحاربة جمع التوكيلات والقبض على من يروجون لها.

 من هنا كانت خطورة الأمر وصعوبته، ورغم ذلك تمكن سيد باشا من جمع العدد الأكبر من التوكيلات، وهو ما لفت أنظار أنظار الرجل الكبير سعد زغلول له، وأصبح سيد باشا موضع إعجاب وثقة كل أعضاء الوفد، بنشاطه وذكائه ووطنيته وعمله الدءوب، وذات يوم اقترب منه المحامى أمين يوسف "والد مصطفى وعلى أمين" وانتحى به جانبًا وأبلغه بصوت خفيض "أن قيادة الثورة اختارته للعمل فى الجهاز السرى للثورة، فرحب على الفور من دون أن يسأل عن هذا الجهاز وما طبيعة دوره ومن هى قيادته ومع مَنْ سيعمل؟.

لم يسأل سيد باشا عن العمل المطلوب منه، كل ما أدركه أنه عمل سرى من الأعمال الخطرة، خاصة أن الأحكام العرفية مفروضة على مصر من السلطة العسكرية البريطانية، التى باتت تستشعر رياح الثورة، إذ لمح السير ونجت فى 13 نوفمبر 1918م يوم لقائه مع سعد ورفاقه إصرار سعد على التحدى وطلب الاستقلال، وهو ما تأكد له ببداية معركة التوقيعات فى اليوم التالى مباشرة لهذا اللقاء العاصف.

 البدايات التى اتخذها المصريون بجمع توكيلات الشعب المصرى، مفوضين سعد زغلول فى طلب الاستقلال، أكدت أن مصر بدأت بالفعل تتمرد على الاحتلال، ولم يكن أمام إنجلترا من مناص طلب استدعاء رجلها القوى اللورد "اللنبى" المنتصر والساحق للإمبراطورية العثمانية وألمانيا العظمى، لقمع ثورة المصريين قبل أن تنفجر ويستحيل إيقافها، وبالفعل استقبلت مصر فى نفس الشهر وتحديدًا يوم 24 نوفمبر 1918م - أى بعد عشرة أيام فقط من لقاء سعد - ونجت "اللنبى" عائدًا من سوريا وفلسطين بعد أن أجهز على الأتراك تمامًا، ودخل القاهرة بزى التشريفة العسكرية البريطانية.

وبدأت المعركة بين إنجلترا وسعد، إنجلترا استعانت برجلها اللورد اللنبى، وسعد استعان برجله الخبير القديم عبد الرحمن فهمى، مؤسس الجهاز السرى، واختير سيد محمد باشا لتأليف أول لجنة سرية لطلبة المدارس العليا، فعمل بذكاء وحرص شديد فى تأسيس اللجنة وإعلام أعضائها أن مهمتهم خطرة قد تودى بهم إلى الإعدام، واختار الموثوق فيهم فقط من الطلبة، ومن كل مدرسة اختار مندوبين، وكانت مهمة لجنة الطلاب توزيع المنشورات، وعمل البيانات وإصدار جرائد سرية "لأن الجرائد لن تنشر شيئًا عن الثورة بسبب الرقابة والأحكام العرفية". وتنظيم الاضرابات ومقاومة أعداء الثورة وتأليف فروع للجنة، وبنفس طريقة عملها فى القاهرة، وعمل شبكة اتصالات بين اللجان الفرعية، بحيث يمكن أن تصل إليها فى أسرع وقت وفى أى مكان.

وانبثقت من لجنة القاهرة خلايا صغيرة لاتزيد عن اثنين، مهمتها القيام بأحد الأعمال السابقة فى سرية تامة، وكان سيد باشا المسئول عن كل هذه الأعمال، ويتم التنفيذ بأوامره وتحت مسئوليته وحده، وكانت لجنة الطلبة التى ترأسها النواة الأولى لمعركة طويلة بين شعب مصر الأعزل والمحتلين بقيادة الدموى اللورد "اللنبى ".

للحق لم يكن سيد محمد باشا أول الموجودين فى الجهاز السرى للثورة، إذ إن عبد الرحمن فهمى كان له العديد من الأذرع الضاربة فى كل المجالات، وفى مقدمتهم الداهيتان أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى، لكن أول لجنة طلابية سرية أنشئت، كانت من نصيب سيد محمد باشا، وبرع فى تقسيمها بشكل حربى مخابراتى كفء، وتطورت فيما بعد وضمت العمال أيضًا، وكون الفريقان معًا قوة ضاربة، أرهقت الإنجليز واللنبى، الذى شعر أنه هزم الأقوياء فى الحرب، وانهزم من بعض الطلبة والعمال البسطاء، وتمنى لو يستطيع القبض على واحد منهم فقط، حتى يمسك بطرف الخيط، ليكتشف فى النهاية أن عملاءه الموثوق بهم، هم ذاتهم الذين كانوا يراقبونه وحكومته، وينقلون أخباره إلى الجهاز السرى وقائده عبد الرحمن فهمى، الرجل الاخطبوط الذى طالت أذرعته كل مكان فى مصر ...