رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

سماء عربية

صفحات من تاريخ الحركة الوطنية المصرية ”4” بدء تصفية الخونة

بعد نفى سعد زغلول واشتعال الثورة فى كل مصر؛ كانت التعليمات واضحة بعدم التعاون مع المحتل البريطانى، أو قبول أية مناصب وزارية فى ظل الاحتلال الإنجليزى؛ والتزم المصريون بهذه التعليمات، وشلت الإضرابات العامة البلاد طولًا وعرضًا، إلا أن بعض المصريين خرجوا عن هذا إلاجماع وتحدوا قرارات سعد زغلول وإرادة الثورة، وبعد الإفراج عن سعد من مالطة وسفره إلى باريس لعرض قضية مصر على مؤتمر الصلح؛ فوجئ المصريون بقبول محمد سعيد باشا ومعه سبعة مصريين تولى الحكم، متحدين قرارات سعد زغلول أو بالأحرى قرارات الثورة بعدم الدخول فى أية وزارة طالما مصر تحت الاحتلال.

كان البند الخامس من أهداف لجنة الطلبة هو "مقاومة أعداء الثورة"، ولكن كيف تتم مقاومتهم؟! إن المنشورات السرية والبيانات والاضطرابات والجرائد السرية لن تقتلع هؤلاء الخونة من أماكنهم!!! إذًا لا سبيل من تصفيتهم جزاء خيانتهم للثورة وسعد ودماء كل الذين سقطوا فى سبيل الحرية.

لذا تشكلت لجنة ضمت سيد محمد باشا وأحمد عبد الحى كيرة الطالب فى مدرسة الطب؛ ومعهم يوسف العبد الذى ضم إلى الخلية حسن سالم طالب مدرسة الهندسة؛ فكر الأربعة فى زيادة الأسلحة وخاصة القنابل والتى اكتشفوا عدم صلاحيتها للاستعمال وأصبح لا سبيل أمامهم من تصنيعها بأنفسهم، ولأن أحمد عبد الحى كيرة طالب بمدرسة الطب فقد كان دارسًا للكيمياء يفهم طرق صنع القنابل كيميائيًا؛ وقام بإحضار كتاب كيمياء باللغة الإنجليزية، وعكفوا على دراسته وترجمته وأحضروا المواد اللازمة لصنع أول قنبلة فى الثورة؛ إلا أنهم لم يتمكنوا من تصنيع جسم للقنبلة وكان لابد من إسناد المهمة لأشخاص يمكن الوثوق بهم؛ فاتصلوا برئيس التنظيم السرى للعمال محمد عثمان الطوبجى وهو جزمجى الذى أحضر اثنين من أعضاء الجهاز هما الشيخ أحمد جادالله العامل بالعنابر (وهو من سلمه سعد زغلول مذكراته ليخفيها بمعرفته قبل القبض على سعد ونفيه) والثانى إبراهيم موسى العامل بالعنابر والذى أُعدم بعد ذلك بست سنوات فى قضية اغتيال السردار.  

ووضع سيد باشا وأحمد عبدالحى كيرة تصميم جسم القنبلة للشيخ أحمد جادالله الذى أتم العمل وتوجها إلى إحدى المزارع بشبرا النملة لتجربتها وأحدثت انفجارًا هائلًا؛ ولكن فاتهم أن مادة الزنك التى صنع منها جسم القنبلة ليست وقودًا للقتل.  

بعد الانتهاء من تجربة القنبلة وعودتهم إلى القاهرة دعاهم محمود فهمى النقراشى (الرجل الثالث فى الجهاز السرى بعد عبدالرحمن فهمى وأحمد ماهر) لاجتماع سرى فى محل أحد الترزية وسأل سيد باشا عن إمكانية القيام باغتيالات وهل يوجد فى الطلبة من يقوم بها؟ ويروى سيد باشا فى مذكراته: "رددت: أنا ويوسف العبد!.. فالتفت إلى شخصين كانا معه لم أعرفهما وقال لهما.. دا فيه ناس جاهزين ومستعدين... وكان الاثنان هما الدكتور أحمد ماهر وحسن كامل الشيشينى؛ وأخرج حسن الشيشينى مصحفًا من جيبه وقال: إذن نقسم على المصحف بأن هذه المسألة السرية لا يبوح أحد بها، ومن يكتشف أمره لا يقول إلا عن نفسه! وأقسمنا كلنا على ذلك".

وقد وفى كل أعضاء الجهاز السرى بالقسم وظلوا على عهدهم به، حتى بعد أن انتهت الثورة ولم يطمعوا فى المطالبة بفواتير ما قدموه من تضحيات، ولم يسعوا لطلب وظائف أو مكافآت، وعاشوا وكأنهم لم يشاركوا فى هذه الثورة، بينما كانوا هم شعلتها الحقيقية التى غيرت من ملامح مصر والعالم كله، وأصبحت تعرف بأنها مدرسة للحرية وانتشرت عدواها وأفكارها إلى أرجاء العالم، ولا عجب إذ كان رجال هذا الجهاز العظيم وطنيون من طراز فريد من أمثال المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعى، والذى كان ضمن خلية الاغتيالات بالجهاز السرى، ورغم أنه كتب تاريخ مصر الوطنى كله إلا أنه مر مرورًا عابرًا على أسرار الجهاز السرى احترامًا لقسم السرية الذى أقسمه ورفاقه، ولولا ما كشفته مذكرات سعد زغلول السرية من تفاصيل وأسماء لظلت أسرار الثورة دفينة ضمائرهم العامرة بحب الوطن.

حين جاءت إشارة البدء بالتنفيذ فى أول عملية اغتيال فى محمد سعيد باشا رئيس الوزراء، بقول النقراشى "على بركة الله"  اختير سيد باشا لإلقاء القنبلة ويوسف العبد لإعطاء الإشارة، ورصدت تنقلات رئيس الوزراء وتحركاته ومواعيده والشوارع التى يمر بها، وقبل التنفيذ بأربع وعشرين ساعة جاء أحمد عبدالحى كيرة إلى سيد باشا ليخبره بتعديل الخطة وأن من سيقوم بإلقاء القنبلة، هو "عبدالحميد المنسورى" وأن دور سيد باشا الإشارة بالبدء.

"فى ليلة التنفيذ أحضرت القنبلة وذهبت إلى بيت المنسورى وعلمته طريقة إلقائها، وكانت الخطة أن سيارة محمد سعيد باشا ستجىء من نادى محمد على مخترقة شارع سليمان فميدان الإسماعيلية "التحرير الآن"، ثم تتجه إلى شارع قصر العينى فشارع الشيخ ريحان إلى مكتب محمد سعيد باشا بوزارة الداخلية؛ ويجلس عبدالحميد المنسورى على قهوة فى الميدان، وعندما تصل السيارة إلى المكان المحدد حوالى العاشرة والنصف، يعطى سيد باشا الإشارة بأن يخرج منديلًا أبيض من جيبه ويمسح به وجهه ثم يضعه فى جيبه ويقوم ويمشى من المكان.

وحل الموعد ومر الوقت ولم تحضر السيارة وذهب سيد باشا إلى نادى محمد على، ليعرف ماذا حدث ولكنه لم يجدها فتوجه عائدًا إلى ميدان الإسماعيلية ليرى زميله ويخبره بالتأجيل، وإذ به يرى البوليس والمخبرين يحيطون به فقام بالاختفاء على الفور، وارتدى ملابس بلدية واتصل بالجهاز السرى فعلم أن المنسورى اضطر للاعتراف تحت تعذيب الإنجليز، وذكر اسمه واسم أحمد عبدالحى كيرة الذى تم القبض عليه، وهكذا فشل إلقاء أول قنبلة فى الثورة .
وتنكر سيد باشا بالزى البلدى وسافر إلى قريته فى شرباص، وبعد عدة أيام عاد إلى القاهرة وأمضى ليلته فى غرفة كان استأجرها فى بركة الفيل لتكون مخبأ للقنابل؛ وأمضى الليلة نائمًا مع عشرين قنبلة !ثم استأجر غرفة أخرى قريبة من بركة الفيل، وتنكر فى زى شيخ معمم وغير من معالم وجهه، واتصل بالجهاز السرى وبدأ العمل من جديد.