رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

سماء عربية

د. مصطفى يوسف: اللهجات المحلية فى أصلها منبثقة من الفصحى

حاوره: هاني عبدالمقصود

العامية والفصحى قضية قديمة متجددة، فالطفل يتعامل في البيت باللهجة العامية، وفي المدرسة باللغة الفصحى، وهذه ازدواجية يؤثر على لغة أجيال، وفى الآونة الأخيرة أصبح مجمع اللغة العربية بالقاهرة محط أنظار العامة، أو بتعبير آخر "ترند" بإحياء بعض الألفاظ التى يظنها الجميع عامية مصرية بحتة؛ وإذ بالجميع يتفاجأ بأنها أصبحت إحدى مفردات اللغة الفصيحة، لهذا توجهت "سماء عربية" للدكتور مصطفى يوسف "المتحدث الإعلامي للمجمع" للتعرف على جديد المجمع بخصوص هذا الموضوع.

ابتدرناه بقولنا هلا تحدثنا عن ملابسات إضافة المجمع لكلمات صارت "ترند"؟

قال: الموضوع لا يُنظر إليه بهذا الشكل؛ لأن اللغة عبارة عن كائن حي يتنامى فى قطاعات كثيرة جدًّا كالصحافة بكل أنواعها؛ وهذا من شأنه أن تتولد منه ألفاظ ومصطلحات جديدة كمصطلح المسحة، شهيد الشهامة، والجيش الأبيض. والمجمع ليس فى معزل عن رصد هذه التغيرات الحادثة فى الحياة العامة؛ فهو يرصد اللفظ ويخضعه لقوانين الدراسة، هل هذا اللفظ له أصول فى الفصحى؟ وهل يمكن أن يجاز على سبيل القياس؟ فالفكرة أن اللغة هي بنت المجتمع وبنت الحاجة.

  • وماذا عن الحدود الفاصلة بين العامية والفصحى؟

ليس هناك حدود فاصلة بين العامية والفصحى، فهذه الحدود هي التي يصنعها الناس؛ فالمجمع عندما يدرس اللفظ ينظر إليه بصفته جذرًا لغويًّا عربيًّا صحيحًا؛ فعلى سبيل المثال الفعل "استعبط" مكون من الجذر العربى (ع ب ط) فهل هذا الجذر فصيح أم غير فصيح؟ هذا الجذر فصيح، وعندنا في اللغة "عبطته الدواهى" أى أخذته على حين غرة، و"العبيط" وهو الأبله غير الناضج، فوصف اللفظ بأنه عامي حدث من قِبل المجتمع نحو اللفظ، أو أن دلالته الموجودة بين الناس تشيع فى سياقات توصف بأنها سياقات عامية. أما المجمع فإنه لا يتعامل مع الأمر بهذا الشكل الشائع؛ بل يتعامل مع جذر لغوى من حيث الاشتقاق والقياس، فهل الاشتقاق صحيح أم لا؟ الفعل على وزن استفعل، وهو وزن عربي صحيح، والقياس يجيز اشتقاق استفعل من الصفة "عبيط".

  • وما جهد المجمع في دراسة الألفاظ العامية العربية المقابلة للألفاظ المصرية بالدول العربية الأخرى؟

المجمع لا يهتم بعاميات الدول الأخرى كاهتمامه بالعامية المصرية، ولكنه يدرس الألفاظ المقابلة للألفاظ التي توجد عندنا بمصر؛ فمثلًا كلمة "ازدياد" تشيع فى بلاد المغرب العربي بمعنى الميلاد، أى أنهم يقولون تاريخ الازدياد، كما نقول بمصر تاريخ الميلاد، وازدياد لفظ فصيح ورد بالقرآن الكريم: " اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ".

وفى دول المغرب العربي يشيع لفظ الانتخابات الاشتراعية فى مقابل الانتخابات التشريعية عندنا، فدراستنا تنبنى على الألفاظ شبه المترادفة فى الدول العربية، وننص دائمًا على بلد المنشأ أو بلد الاستخدام، وهى أيضًا فصيحة لأن لها جذرًا لغويًّا فصيحًا من اللغة.

وهناك العديد من مجامع اللغة العربية بخلاف مجمع القاهرة كمجمع اللغة العربية بدمشق فى سوريا، ومجمع اللغة العربية الفلسطيني، ومجمع اللغة العربية الموريتانى، ومجمع الملك سلمان العالمى، ومجمع اللغة العربية بالشارقة فى دولة الإمارات، وهناك هيئات ومجالس تعادل فى سلطتها سلطة المجامع اللغوية مثل مكتب تنسيق التعريب بالمغرب، ومركز الملك عبدالله للغة العربية... إلخ.

ولا توجد مجامع لغوية فى دول غير عربية؛ لأن اتحاد المجامع العربية جمعيته العمومية تتكون من الدول العربية فقط، ودرج العرف أن يكون رئيس اتحاد المجامع هو رئيس مجمع القاهرة؛ لأنه المجمع الأم، وكان أول رئيس له هو د. طه حسين الذى كان رئيس مجمع القاهرة فى ذلك الوقت، وقد أنشئ مجمع اللغة العربية عام ١٩٣٢ بمرسوم ملكي، وباشر مهامه عام 1934م، وكان أول رئيس له الأستاذ محمد توفيق رفعت، وأما اتحاد المجامع فنشأ فى أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وكان أول رئيس له د. طه حسين.

  • هل نفهم من ذلك أن اللهجات منبثقة من الفصحى وما دور المؤتمر السنوى لمجمع اللغة العربية؟

اللهجات المحلية هى فى الأصل منبثقة من اللغة العربية الفصحى ولم يكن هذا النهج مقصورًا على مجمع القاهرة فقط بل هو نهج المجامع الأخرى كافة، وقد أقرت تلك المجامع بالدول الأخرى العامية المصرية وأجازت ما يجيزه مجمع اللغة العربية بالقاهرة من ألفاظ وليس كما يفعل المجمع بالقاهرة من إجازة او دراسة الكلمات المقابلة كما ذكرنا من قبل.

ويرجع ذلك إلى أن مجمع القاهرة يقيم مؤتمرًا سنويًّا باعتباره المجمع الأم، وهو يقام كل عام فى أواخر شهر مارس وأوائل شهر أبريل، متزامنًا مع عقد القمة العربية، ويجتمع فيه جميع رؤساء مجامع كل الدول العربية، وأعضاء المجمع المراسلون من الدول العربية، وبعض المستشرقين من الدول غير العربية.

وفي هذا المؤتمر يعرض مجمع القاهرة أعماله على المؤتمر؛ فكل لجنة بالمجمع تعرض أعمالها على هذا المؤتمر السنوي؛ فإذا وافق أعضاء المؤتمر على المصطلحات والألفاظ المقدمة أخذ اللفظ مشروعيته اللغوية التى تؤهله للإدراج فى المعاجم اللغوية العربية الأخرى، ولا تُقدم أية أعمال أخرى لأية مجامع غير مجمع اللغة بالقاهرة؛ وبذلك يصبح للعامية المصرية مشروعيتها اللغوية عن بقية عاميات الدول العربية الأخرى.

  • وجلسات المؤتمر أهي مغلقة أم علنية وما فاعلياته؟

هناك جلسات مغلقة وأخرى علنية، وفي الأولى تعرض فيها كل لجنة من لجان مجمع القاهرة أعمالها على أعضاء المؤتمر، ولجان المجمع تتجاوز الأربعين لجنة ولا تقتصر أعمال المجمع على لجان لغوية فقط؛ فعندنا لجان فى كل فروع العلم، وهذه اللجان لديها ذخيرة لغوية لكل فروع العلم، وإذا ما اتُّخذ قرار سيادى بتعريب هذه العلوم ومجالات الدراسة بها؛ فهناك مادة جاهزة للتدريس باللغة العربية لتلك العلوم، وهى نتاج أعمال مجمع القاهرة فقط وبإجازة بقية المجامع العربية الأخرى.

وهناك جلسات علنية يحاضر فيها أعضاء المؤتمر سواء من مصر أو من خارج مصر من الأعضاء المراسلين والمستشرقين، وتكون المحاضرات عن موضوع المؤتمر في هذا العام، وتدور جلساته العلنية على مدار أسبوعين.

  • وما المعايير في إضافة مصطلح عامي إلى المعاجم العربية؟

أعضاء المجمع بمثابة مرصد لغوى؛ وحين يضاف مصطلح عامي للمعاجم فأن الهدف ليس تصحيح العامية فى حد ذاتها، بقدر ما هو رصد للألفاظ المستحدثة فى الحياة العامة، وهذه الألفاظ المحدثة لابد أن تتوافر لها عدة معايير لتصبح جزءًا من الفصحى.

وهناك مصطلحات علمية كثيرة أجازها المجمع كـ إيدليوجية، إستراتيجية، لوجستى... وهذه ألفاظ وافدة إلينا، والمجمع إما أن يبحث لها عن مقابل عربي كما في "مِصْعَد" بدلًا من "أسانسير"، و"وسم" بدلًا من "هاشتاج"، و"كراسة الأسئلة والأجوبة" بدلًا من "البوكلت"، و"الحاسب اللوحي" بدلًا من "التابلت"، و"الفُسْبُك" بدلًا من "الفيس بوك"... وهكذا، والاتجاه الآخر هو أن يقبلها المجمع عن طريق التعريب، ويخضعها لبعض قواعد اللغة العربية، كالبدء بمتحرك، والنسب، والمصدر الصناعي.

ومعايير إدراج الألفاظ والأساليب المستحدثة في معاجم المجمع:

1-الشيوع: فاللغة إنما تنمو وتتسع بالاستعمال، والتعبير المتداول عن المفاهيم والمواقف والأشياء. وهى فى ذلك دائبة الحركة، موصولة التجدد. ومتابعة ذلك كله ليس بالمهمة اليسيرة، لكن اللجنة تعتد بما يحقق قدرًا من الشيوع، تطمئن إليه، وتدع ما سواه. غير أن الشيوع وحده لا يكفى فى حالة اللغة العربية، وإن اكتفت لغات أخرى

2-السلامة اللغوية: طبقًا لقواعد العربية المستقرة، وذوقها فى التعبير والبيان، وطبيعة الفم العربى فى إنتاج الأصوات والنغمات والنبرات والألحان؛ فقد ينبو بعض الجديد الشائع عن التوافق مع قواعد النحو والصرف، وروح العربية فى الإعراب عن المعانى، وأساليب البيان، فيُترك وإن شاع على ألسنة العامة وذاع. والعنصر الثالث من هذه المنظومة هو:

3-الجِدَّة: ونعنى به عدم ورود اللفظ أو التركيب، الشائع، الموافق لقواعد اللغة وذوقها، فى مصادر اللغة ومعاجمها القديمة والمعاصرة المعتد بها، وإن كان قد شاع على ألسن الفصحاء والكُتَّاب، فتقره اللجنة الموقرة، وتضفى عليه المشروعية اللغوية، وتقدمه – بعد إقرار مجلس المجمع ومؤتمره العلمى السنوى – لسائر الباحثين سائغًا مقبولًا بإذن الله.

  • وهذا التحول هل يخدم اللغة العربية أم يضعفها؟

قطعًا هذا التحول يخدم اللغة العربية؛ لأن لغتنا العربية تتسم بالثراء والتنوع، واللغة بنت الحاجة والاستعمال؛ فالناس أصبحوا يستخدمون كلمات كـ: شهيد الشهادة، الجيش الأبيض، المسحة، هذا أصبح واقعا لغويا موجودا بالفعل، فالمجمع لن يضع رأسه فى الرمال لأنه واقع لغوى موجود بالفعل، ولابد اأ يكون له مسوغ لغوي مقبول؛ فإما أن ترشح البديل وإما أن تجيز هذا اللفظ أو المصطلح الشائع كما هو.

  • وماذا عن عن المحاذير التى يجب وضعها في الاعتبار عند القيام بهذا الأمر؟

لابد من عدم التوغل فى العامية حتى لا تفقد اللغة هيبتها؛ فهناك ألفاظ كـ "دلت، سطب" لا يصح أن تجيزها المجامع اللغوية؛ لأنه ليس كل ما يشيع على ألسنة العامة يصبح مجازًا لغويًا، وهناك بعض الألفاظ لها محاذير أخلاقية، ولا بد من مراعاة الجوانب الأخلاقية فلا يصح مثلا أن أكتب فى مخاطبة رسمية "استعبط فلان" أو "برطم فلان"، ولكن من الممكن استخدامها فى سياق روائى مثلًا، وتبقى للمخاطبات الرسمية قدسيتها، فلا يصح كتابتها بألفاظ مجازة ولكنها تتصف بالابتذال اللغوي فى سياقات معينة.

ويحضرنى فى هذا السياق أن بعض الناس فى الآونة الأخيرة يستخدم إجازات المجمع، ويجرى عليها إسقاطات سياسية معينة أو إسقاطات اقتصادية معينة؛ فالمجمع يتعامل مع الألفاظ من حيث كونها لغة، ولا دخل له بالسياسة ولا بالاقتصاد وما إلى ذلك، فمثلا عندما أجاز المجمع مصطلح "ائتلاف سياسي" فإنه لا يدعو لذلك؛ بل هو يجيز التركيب الوصفى فقط، أو كلمة "فصيل" أو غير تلك الكلمات؛ لأن المجمع يتعامل مع الألفاظ من حيث كونها ألفاظًا، وليس فى عقله الجمعى أية إسقاطات سياسية أو غيرها، ومما يزعج المجمع فى هذا الصدد أن بعض وسائل الإعلام تصدر اللفظ، وكأننا نجيز المعنى نفسه فمثلًا عندما يجيز المجمع تركيب "بؤرة إجرامية" لا يعني الدعوة بحال إلى تكوين بؤر إجرامية، بل نحن نتعامل مع اللغة من حيث كونها لغة؛ فنحن لسنا جهة سياسية أو اقتصادية؛ بل جهة لغوية وحسب.