أنس الشريف.. الصحفي الذي صار القصة بعدما وثّق مآسي وجرائم غزة

«لمن يهمه الأمر.. الاحتلال يلوّح باجتياح غزة بجدية، والمدينة تنزف منذ 22 شهرًا تحت نيران البر والبحر والجو».. كان هذا آخر ما كتبه الصحفي أنس الشريف قبل أن يغتاله قصف الاحتلال. لم يكن نداءً عابرًا، بل شهادة مسبقة على جريمة رآها بأم عينيه، وقرر أن يوثقها حتى اللحظة الأخيرة.
منذ بداياته في جباليا وحتى ظهوره على شاشات العالم، ظل أنس وفيًّا لوعد قطعه مبكرًا: أن يبقى عين غزة وصوتها. كان يعرف أن التهديدات باغتياله حقيقية، وأن استشهاده قد يأتي في أي لحظة، لكنه ظل واقفًا وسط الركام، يوثق ويكتب ويصوّر، ليحكي للعالم ما لا تحمله الكلمات وحدها.
الطفولة والنشأة
ينحدر أنس جمال محمود الشريف من عائلة لاجئة من مدينة المجدل المحتلة عام 1948، استقرت في مخيم جباليا شمال قطاع غزة. وُلد في 3 ديسمبر 1996، كأصغر أفراد الأسرة المكونة من 11 فردًا، أكبرهم شادي الذي استشهد قبل عقدين في مواجهة الاحتلال، والأصغر أنس الذي سيصنع اسمه لاحقًا بشجاعة مماثلة. كبر أنس وسط أزقة مخيم جباليا الضيقة، حيث صدى القصف يختلط بضحكات الأطفال، وعلم منذ صغره أن الفرح قد يولد حتى في أصعب اللحظات.
الحياة اليومية في مخيم جباليا، وخصوصًا في مدارس الأونروا، صقلت شخصية أنس منذ صغره. اللعب في الشوارع، حضور المدرسة، المساجد، المنتديات الثقافية، والنوادي الصيفية كلها ساهمت في بناء وعيه المبكر. كان شغوفًا بالكرة، مرحًا بين أقرانه، لكنه كان يملك ميلًا واضحًا للملاحظة والانتباه للتفاصيل الصغيرة التي لا يراها غيره. هذا الحسّ بالملاحظة يوازيه حضور اجتماعي لافت؛ إذ يصفه جيرانه بأنه طيب القلب وحنون، وذكي اجتماعيًا يعرف كيف يفتح قلوب الناس من حوله. صفاتٌ سترافقه لاحقًا في عمله الصحفي، حين يتحوّل القرب من الناس إلى مفتاحٍ لفهم حكاياتهم.
بعد الثانوية العامة عام 2014، سجّل أنس في تخصص العلوم الشرعية بجامعة الأقصى، لكن حوار مع الصحفي عماد زقوت غيّر مسار حياته. قال له زقوت يومها: «أرى فيك صحفيًا، وإذا احتجت دعمًا فستجدني بجانبك». النصيحة لم تكن مجرد كلمات، بل فتحت الباب أمامه لتحويل تخصصه إلى الإذاعة والتلفزيون في الجامعة نفسها، حيث تخرج عام 2018 مزودًا بالمهارات التقنية والمعرفة النظرية التي ستصنع منه مراسلًا في قلب الحدث.
من الجامعة إلى الميدان: بداية صوت غزة
بعد تخرجه من جامعة الأقصى عام 2018، بدأ أنس، رحلته في تغطية الأحداث الاجتماعية والسياسية في غزة، من مهرجانات المجتمعات المحلية إلى الاحتجاجات والمسيرات، وكان حضور المخاطر جزءًا من يومياته؛ إذ أصيب 3 مرات بقنابل ورصاص الاحتلال، لكنه لم يتراجع لحظة عن أداء مهمته.
في عام 2020، تزوّج أنس، ليبدأ فصلًا جديدًا من حياته الخاصة. رُزق بابنته الكبرى شام ذات الأعوام الخمسة، التي حظيت بالنصيب الأوفر من الحب والدلال حتى جعلها مبتدأ وصيته قبيل استشهاده. أما طفله الثاني صلاح فهو وليد الحرب (عام ونصف)، لم يتسنَّ له أن يجتمع مع والده إلا أيامًا معدودة، حتى إن زوجته بيان تقول: «لو أردت عدّ الأيام التي اجتمع فيها أنس بصلاح فلن تتم نصف الشهر».
مع اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر، بدأ أنس بنشر فيديوهات على صفحاته الشخصية، إلى جانب تزويد وكالات وقنوات محلية ودولية، من بينها قناة الجزيرة، بالمواد المصورة من شمال القطاع حيث كانت فرق الصحفيين قليلة، ويعدون على أصابع اليد الواحدة.
في الأيام الأولى للحرب، طلبت قناة الجزيرة من أنس أن يظهر بوجهه في أحد تقاريرها المباشرة من شمال غز. تردد للحظة، ثم قال: «صعب.. ما عمريش طلعت على شاشة أو على إذاعة محلية عشان أطلع على قناة عالمية». مع تشجيع الفريق، وافق أنس على المحاولة، وظهر لأول مرة في التقرير الذي وثّق انفجار مستودع أخشاب ومواد تنظيف في قلب جباليا. لم يكن معه مصوّر، فطلب من صاحب المستودع المستهدف أن يصوره واقفًا أمام الكاميرا، لينطلق بذلك أول ظهور له على الجزيرة. وهكذا، تحول أنس من مصور هاوٍ يغطي الأحداث المحلية إلى مراسل يظهر وجهه للعالم.
شجاعة لا تعرف حدودًا
أنس كان يتحرك في الميدان بخفة وسرعة، كأنه يعرف كل زاوية قبل أن يصل إليها. كل خطوة محسوبة. يلتقط مشهدًا سريعًا، ويقرر الزاوية المناسبة للكاميرا في جزء من الثانية. عيناه تلتقط التفاصيل التي قد يتركها الآخرون، والذاكرة تخزن كل صوت ورائحة ووجوه من حوله.
وهكذا كان يراه زملاؤه أيضًا، الذين شهدوا لكفاءته وشجاعته في الميدان: «أنس لا ينقل الأحداث فقط، بل يجعلنا نعيشها معه.. نحس بالخطر والحزن والإنسانية في كل لقطة. مهاراته في الميدان لا تعكس فقط احترافيته، بل تفانيه الحقيقي في إيصال الحقيقة دون خوف».
النوم بالنسبة لأنس صار رفاهية نادرة منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة؛ أحيانًا نجده يفترش الأرض على سجادة صلاة قصيرة ليستريح قبل بدء التغطية، وأحيانًا أخرى يختلس قيلولة وهو جالس، وفي يديه الميكروفون، وعيناه نصف مغلقة لكنه جاهز للتحرك عند أول دوي انفجار أو صافرة إنذار.
أنس لم يكن يكتفي بالظهور أمام الكاميرا، بل كان يتفاعل مع الناس مباشرة، يسمع حكاياتهم وهمومهم، ويحرص على أن تصل هذه الأصوات إلى العالم. على منصة X، كانت تغريداته اليومية تنقل الواقع كما هو: «مهمتي هي نقل الحقيقة من الميدان كما هي.. أطفالنا يحتاجون الطعام والماء، لا يمكننا السكوت عن هذه المعاناة».
بين لحظة وأخرى، وصلت الصدمة الكبرى: خبر قصف منزله واستشهاد والده جمال. استقبله بصمت قصير، ثم استعاد توازنه المهني فورًا. قال عن ذلك لاحقا: «ربما يعتقد الاحتلال أن استهداف عائلتي سيكسرني، لكنه لم يعرف أن فقد والدي لم يكسرني؛ بل زادني إصرارًا على المضي قدمًا في الطريق الذي اخترته. كانت وصيته لي أن أواصل أداء واجبي، وأن أكون صوتًا ينقل الحقيقة مهما كانت الظروف».
رغم الفقد، وقف أمام الكاميرا ليغطي نبأ استشهاد والده ومراسم الدفن، ولم يكتفِ بذلك، بل أطلق نداءات عاجلة على السوشيال ميديا لتسليط الضوء على معاناة أهل غزة، مؤكّدًا أن الصحافة الحقيقية هي صوت من لا صوت له.
بينما كان يواصل أنس تغطيته اليومية في الميدان، لم تتوقف حملات التحريض ضده، سواء عبر ما ينشره الناطق باسم جيش الاحتلال، أو على مواقع التواصل الاجتماعي. كان يرد أحيانًا بالسخرية، لكنه كان يدرك أن حياته وحياة أسرته أصبحت في خطر أكبر من أي وقت مضى. نصحه بعض الزملاء بترك الميدان أو السفر للخارج، لكنه لم يناقش الفكرة أبدًا.
ورغم عروض عدة دول عربية لإخراجه من غزة، كان أنس يرفض دائمًا، كما رفضت العائلة أيضًا عرض إخراج زوجته وأبنائه وأمه، قال لشقيقه بحسم: "لا.. لن أخرج من غزة سأظل دائما مع الناس أنقل معاناتهم وأوجاعهم للعالم ولن تخيفني تهديدات الاحتلال المستمرة".
آخر لحظة في الميدان
في صباح الأحد، 10 أغسطس 2025، كان أنس داخل مستشفى أصدقاء المريض في مدينة غزة، ينقل للعالم مأساة الجوع التي تطحن المدنيين. بدا صوته منهكًا لكنه ثابت، وهو يصف مشهد الأطفال والنساء الذين يبحثون عن لقمة تسد رمقهم وسط حصار خانق.
مع حلول المساء، تصاعدت حدة القصف على مدينة غزة. ومن قلب الخطر، دوّن أنس آخر تغريدة له على منصة X: «قصف لا يتوقف… منذ ساعتين العدوان على مدينة غزة يشتد».
وقبل الغارة بخمس دقائق أجرى أنس مكالمته الأخيرة مع زوجته قال لها بقلق: «مش عارف أقعد يا بيان… خايف عليكم، أهرب للتغطية لكن عقلي مشغول بكم». ثم طلب منها: «عليكم أن تغادروا غزة لجنوب القطاع.. سيبتزونني بكم والموت أهون عليّ من ذلك». لكن كعادتها، رفضت بيان رفضًا قاطعًا طلبه قائلة: «يمكنني فعل أي شيء إلا أن أبتعد عنك.. انزع الفكرة من رأسك».
بعدها قرر أنس أن يستريح قليلًا داخل الخيمة الصحفية المنصوبة قرب بوابة مستشفى الشفاء. حوالي الساعة 11:35 ليلًا، لامس سماء غزة نورٌ أحمر متوهج، أعقبه دوي انفجار مدوٍ؛ صاروخ إسرائيلي استهدف الخيمة مباشرة. في لحظة واحدة، ارتقى أنس مع زميله محمد قريقع، والمصورين إبراهيم زاهر، محمد نوفل، ومؤمن عليوة.
قال زميله هاني محمود، الذي كان يبعد بناية واحدة فقط: "رأيت الانفجار يضيء السماء، وفي اللحظات التالية وصلت أنباء القصف الذي استهدف خيمة الصحفيين”. لم يكن الأمر صدفة، بل اغتيالًا مقصودًا لصوت حمل الحقيقة من قلب غزة؛ جزء من مسلسل طويل من الاستهدافات التي طالت الصحفيين في القطاع خلال العدوان على غزة.
وداع أنس الشريف
في أبريل الماضي، قبل 4 أشهر من رحيله، كتب أنس الشريف وصيّته وأرسلها إلى صديقٍ له خارج غزة، خشية انقطاع الكهرباء والإنترنت في القطاع. أوصاه أن ينشرها فور استشهاده. افتتحها بقوله: «هذه وصيّتي، ورسالتي الأخيرة. إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي»، ثم أوصى بفلسطين وأهلها، وبأمّه وزوجته بيان وابنيه شام وصلاح، وختم: «لا تنسوا غزة… ولا تنسوني من صالح دعائكم».
وحين جاء يومه الأخير، لم يروِ القصة هذه المرة؛ صار هو القصة. تناقل الصحفيون خبرًا عن استهداف خيمةٍ قرب مستشفى الشفاء. لم يُذكر في البداية لمن هي الخيمة. دقائق قلقة تحوّلت إلى صدمة حين عرف شقيقه أنها خيمة أنس. يقول: «حاولنا الاتصال به فلم يرد.. أسرعنا إلى المستشفى وهناك وجدنا جثمانه. بكينا كما لم نبكِ من قبل؛ كان أنس الأقرب إلى قلوبنا جميعًا».
في بيت العائلة، كتبت زوجته بيان بوجعٍ واضح: «رحل رفيق عمري… كنتَ سندي وأملي، واليوم أصبحتُ أرملة شهيد. حملتَ همَّ شعبك كما حملتَ همَّ شام وصلاح، وكنت تشعر أن رحيلك قريب.. نبراتك يوم لقائنا الأخير حملت ثِقَل الوداع».
وعلى نعشه، مزجت أمّه الدموع بالفخر: «أنا فخورة بيك ورافعه راسي فوق الحمد لله. كان حنونًا علينا.. ربي يصبرني على فراقك».
لم يتوقف الرثاء عند حدود الأسرة. كتب الصحفي الجريح فادي الوحيدي: «أنا مشلول من بعد استشهادك يا أنس، وليس من إصابتي».
واعتبرت الصحفية إسلام الزعنون أن استشهاد أنس يمثل خسارة كبيرة للصحافة الفلسطينية، قائلة: "نفقد اليوم لسان حال الإنسان في شمال القطاع، استمر في التغطية 680 يوما في أصعب الظروف".
وقال الصحفي أسامة أبو ربيع: «غادرت شامخًا كالجبال، فخورًا كالأبطال، تحمل الكاميرا كما لو كنت تحمل سلاح أمة كاملة».
ومن جيران أنس خرجت جملة تختصر مكانته: «أنس مش ابن غزة ولا صوتها ولا وجعها ولا جوعها.. أنس هو غزة. اغتالوا غزة يا أنس».
كان اغتيال أنس الشريف صدمة تجاوزت حدود غزة إلى العالم كله، وصفت الجزيرة استهدافه بأنه «جريمة مكتملة الأركان»، فيما رأت نيويورك تايمز أن مقتله «يكشف عن منهج متعمد لاستهداف الصحفيين». أما الجارديان فاعتبرت رحيله «ليس حادثًا معزولًا، بل استمرارًا لسياسة إسكات الحقيقة بالقوة». على الصعيد الدولي، أدانت لجنة حماية الصحفيين CPJ الجريمة، وطالبت مراسلون بلا حدود RSF بتحقيق دولي عاجل.
لكن إرث أنس لم يُختصر في يوم استشهاده؛ فصورُه ضمن الفريق الصحفي نالت جائزة بوليتزر للتصوير الإخباري العاجل عام 2024، حيث تحولت إلى شواهد عالمية على جرائم الاحتلال، وبفضل تفانيه كرّمته منظمة العفو الدولية في أستراليا بجائزة «المدافع عن حقوق الإنسان»، ليظهر بعدها في مقطع فيديو عبر صفحته، يعبّر عن امتنانه قائلاً: "أهدي الجائزة إلى أبي الحبيب ولكل صحفي وصحفية نقلوا معاناة شعبنا ومآسيه".
رحل أنس.. لكن صوته بقي في كل صورة، ووصيته تذكّرنا أن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل عهد بالصدق حتى آخر نفس.