رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

سماء عربية

”النقاش” ومشروعه الثقافى العربى

كان الناقد الراحل "رجاء النقاش" واحدًا من نقاد قلائل أؤمن أنهم امتلكوا ناصية البيان، وغاصوا فى بحور الثقافة والأدب والتاريخ والفن الجميل، فهو - على حد تعبير المبدعة سناء البيسى - يقرأ بتجرد ويكتب بتجرد، حكّاء يجيد السرد ويمتلك ذاكرة تحتشد بحكايات الثقافة وطرائف المبدعين، ثم إنه قبل هذا وبعده امتلك مشروعًا ثقافيًا عربيًا فريدًا، من شأنه إعادة الثقافة العربية إلى سابق تألقها.

 ورغم كثرة مؤلفاته وتنوعها‏، ‏وتعدد مناصبه فى رحلته مع الصحافة‏ والتكريمات والجوائز التى حظى بها، ‏ فإن أيًا من هذا لم يغره‏، ‏إذ حماه تواضعه الفطرى من شر الغرور‏، ‏وأذكر أن مجلة "الهلال" قبل وفاته بعام ألحت عليه بشدة الموافقة على إصدارها عددًا خاصًا عنه وعن أعماله، فاعتذر مرارًا ثم تحت ضغط الإلحاح اضطر للقبول، وصدر العدد بمشاركة خمسين كاتبًا ومبدعًا من مختلف أنحاء الوطن العربى تحت عنوان: "رجاء النقاش.. القلم والإنسان".

أحب العروبة وآمن بها، ففى قطر ترك بصماته على تاريخها الثقافى، حين أسس مجلة "الدوحة" التى ذاع صيتها كمنارة ثقافية عربية التوجه، راقية المستوى تبارى على صفحاتها مبدعون من كل الأقطار العربية، وتحولت إلى ما يشبه منتدى فكريًا ومشروعًا ثقافيًا عروبيًا، حتى تم وأد الحلم وجرى إغلاقها عام 1986، فعاد إلى مصر كاتبًا بمجلة "المصور"، ثم رئيسًا لتحرير مجلة "الكواكب"، واختتم مشواره الصحفى كاتبًا متفرغًا فى جريدة "الأهرام".

وقد عرفت النقاش على الورق قبل أن أعرفه شخصيًا بسنوات طويلة، عبر كتابه القيم "فى أزمة الثقافة المصرية" الذى نشر فى بيروت عام 1958، وهو كتاب يظهر لقارئه أمراض الثقافة فى مصر، ويقترح سبل النهوض بها، وفى تقديرى أن هذا الكتاب ومعه "مستقبل الثقافة فى مصر" لعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، يعدان من أهم الكتب التى عالجت الشأن الثقافى المصرى فى القرن العشرين، وعدم ذيوعهما بين العامة - مقارنة بكتب أخرى - أمر يثير الحيرة، إذ قد أفهم أن المقدمة الطويلة التى استهل بها العميد كتابه، محاولًا إقناع القراء بانتماء مصر ثقافيًا إلى أوروبا، قد حالت دون قبوله، لكنى لا أستوعب سر إهمال كتاب النقاش، وهو جهد مخلص يسعى لبناء مشروع ثقافى وطنى، يتسامى فوق الأيديولوجيات، ويؤطر الثقافة عبر منهج علمى. 

لقد كان للنقاش مشروعه الثقافى العربى المتمثل فى تقديم الأقلام العربية الشابة والواعدة للقارئ، وبعضهم كان يكبره أو يماثله عمرًا، وبفضل كتاباته عنهم صاروا من كبار المبدعين، نلمس ذلك فى كتابه "ثلاثون عامًا مع الشعر والشعراء" كما قدم فى كتابه "أبوالقاسم الشابى.. شاعر الحب والثورة" صورة قلمية نقدية لهذا الشاعر الكبير الذى مات فى ريعان شبابه، والذى لو امتد به العمر لصار من العلامات الشعرية، ووضع مقدمة الديوان الأول للشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى "مدينة بلا قلب" كاشفًا نواحى الجمال فى قصائده التى عبرت عن توجه جديد للقصيدة فى شكلها الحديث.

ونبه فى كتابه "محمود درويش.. شاعر الأرض المحتلة" إلى أهمية ترجمة قصائد هذا الشاعر الموهوب ونقلها إلى مثقفى العالم لتهزهم القضية التى يكافح من أجلها، وأعاد اكتشاف رواية الكاتب السودانى الكبير الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، عبر مقالته النقدية "عبقرية جديدة فى سماء الرواية العربية" التى تلقفها الجمهور عام 1968، وأتبع المقالة بنشر الرواية عام 1969 فى مجلة "الهلال"، وعرّف بأديب سودانى آخر هو الشاعر محمد المهدى المجذوب، كان مجهولًا خارج حدود السودان، وتصادف أن زارت كوكب الشرق أم كلثوم السودان فكتب المجذوب قصيدة "نخلة النيل" وحين أطلع النقاش عليها شدته وتقصى أخبار الشاعر وشعره، وجعله الله سببًا فى انتقال شهرته خارج السودان.

كما أسهم فى شهرة الأديبة القطرية كلثم جبر حين وصفها بأنها استكملت أدواتها الفنية بدقة فهى - على حد تعبيره - لا تنحت فى الصخر، ولكنها تكتب بمنقار عصفور يلتقط الأشياء بسرعة خاطفة ثم يطير من جديد ليقف على غصن آخر.

وفى كتابه "عباقرة ومجانين" تناول مجموعة من المبدعين العرب والأجانب، مصطحبًا قارئه إلى عوالم متباينة وعصور مختلفة، وبأسلوب سلس ولغة عذبة كان يتنقل كالفراشة من الأدب إلى الفن والحضارة والسياسة، محولًا سيرة من يتناولهم إلى حكاية ممتعة، فمن حديث عن الشاعرة اليونانية "سافو" أقدم شاعرة عرفها التاريخ، إلى آخر عن شاعر فرنسا الكبير "لامارتين"، الذى طالما أعلن أن جذوره عربية، ويتطرق إلى شاعر ألمانيا "جوته" وديوانه الشرقى ومدائحة النبوية، ولا ينسى "موليير" و"بوشكين" و"تولستوي" و"بلزاك" و"رامبو" وغيرهم من مبدعى الغرب ومجانينه الكبار، كما يتناول الدكتور طه حسين مؤكدًا دوره فى صياغة وإرساء الثقافة العربية المعاصرة، ويتحدث عن عبقرية مى زيادة ومأساة إدخالها مستشفى الأمراض العقلية ومعاناتها من ظلم الأقربين، وهى التى عاشت حياتها محبة للغير، وبمثل هذا الحب يتناول الأديب الكبير نجيب محفوظ كاشفًا الستر عن جوانب إنسانية ومواقف عديدة فى حياته، ويتحدث عن واقعة اغتيال الأديب والمناضل الفلسطينى الكبير غسان كنفانى، مؤكدًا أنه نجم عن إدراك إسرائيل صعوبة الفصل بين غسان الروائى وغسان المناضل الذى جسد فى أعماله آلام شعبه ونضاله.

وترجمت كتبه فى غزارتها وتنوعها رغبة فى إحياء فكر القرن العشرين وإبداعه، تفاعلًا مع ما لمسه فى العطاء الثقافى خلال ذلك القرن بمذاهبه ومعاركه من تفرد وعبقرية وتجديد‏، ‏فكان سعيه إلى مد جسور المعرفة بين الجيل الذى عايش هذه التجديدات أو عاصرها‏، ‏والجيل التالى له‏، ‏وتبدى ذلك فى عناوينه: "تأملات فى الإنسان"، و"أدباء ومواقف"، و"كلمات فى الفن"، و"عباس العقاد بين اليمين واليسار"، و"لغز أم كلثوم"، و"صفحات مجهولة فى الأدب العربى المعاصر"، و"الانعزاليون فى مصر" و"قصة روايتين"، وغيرها.

وصدرت له بعد وفاته أربعة كتب كان قد وضعها ولم يكتب لها النشر، ثلاثة منها عن دار نهضة مصر: "هل تنتحر اللغة العربية؟"، "الموت فى قميص نوم.. أوراق فلسطينية فى السياسة والأدب"، و"ثلاث نساء من مصر"، أما الكتاب الرابع "شعراء معاصرون" فصدر عن وزارة الثقافة والفنون والتراث بدولة قطر، وخلال احتفالات "الدوحة عاصمة للثقافة العربية" 2010، اشترت قطر من ورثته حق طباعة جميع كتبه!