رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

منوعات

تلك الغلاديشية الصينية في الصحراء

نظرت إلى مصر من نافذة الطائرة، وكان كل ما رأيته هو هذه الأرض المشرقة التي تتمتع بسبعة آلاف عام من الحضارة، وتولد لديّ تلقائيًا شعور بالرهبة والإعجابٍ لهذا المكان.
من الصين إلى مصر، تفصلنا قارتان مختلفتان وآلاف الأميال. خلال تاريخ التطور الطويل، لم تختفِ هاتان الحضارتين القديمتين الواقعتين في قارتين مختلفتين مثل حضارة حوض وادي السند أو حضارة لو لان أو الحضارات الأخرى التي تألقت ثم اختفت في تاريخ البشرية بسرعة، بدلاً من ذلك، باعتبارهما جوهرتين مخفيتين في المحيط وممثلتين بارزتين لحضارتين امتدتا لآلاف السنين، تألقت الصين ومصر بقوة في تاريخ طويل، وحافظتا على الاهتمام المتبادل والتقدير عبر العصور. في عام 300 قبل الميلاد، تم بناء مكتبة الإسكندرية في مصر، وجمعت أكثر من نصف مليون مخطوطة ثقافية عالمية، بما في ذلك المقاطع الصينية. سجّل سي ما تشيان، المؤرخ الصيني العملاق، أيضًا في كتابه "تاريخ الأمم والقبائل – لمحة عن دولة دا وان"، معلومات عن التواصل والتبادل في عام 120 قبل الميلاد، حينما أرسل الإمبراطور الصيني هان وو سفراء إلى الإسكندرية (المعروفة بـ "لي شوان" آنذاك)، مما فتح صفحة التواصل بين الصين ومصر قبل ما يزيد عن ألفي عام. إبان حكم أسرتي سونغ ويوان الملكيتين، أصبحت التبادلات الثقافية بين الصين ومصر أوثق.
يستمرّ نهر التاريخ في التدفق. من طريق الحرير القديم إلى بذل جهود متضافرة لبناء مبادرة "الحزام والطريق"، لم يتوقف التبادل الثقافي. فوق هذا الرابط، انبثقت منطقة تيدا للتعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين ومصر من العدم، وظلت تنمو وتتطور بهمة ونشاط، مثل لؤلؤة مرصعة في صحراء شمال شرق مصر.
قبل شد الرحال إلى مصر، بحثت في المعلومات واكتشفت أن 96% من مساحة مصر صحراء، وأن الأراضي الصالحة للزراعة تشكل 4% من إجمالي مساحة البلاد فقط، وتكاد محصورةً بالكامل على طول نهر النيل ومنطقة دلتا النيل التي تبلغ مساحتها 25 ألف كيلومتر مربع في شمال القاهرة.
وكما هو متوقع، لم يختلف الواقع كثيرًا عن البيانات المتوفرة، حيث قطعنا مسافة 120 كيلومترا من الصحاري الشاسعة المقفرة من مطار القاهرة إلى منطقة التعاون الاقتصادي والتجاري الصيني المصري في مدينة العين السخنة بمحافظة السويس. كلما قطعنا مسافة من الصحراء المقفرة، كانت هناك أخرى. رأينا فقط التضاريس الصحراوية العارية المتموجة في الأفق، وباستثناء بضع أشجار نخيل التي كانت تظهر أحيانًا، كان الباقي هو صحراء مترامية ممتدة على مدى البصر. ثم جاءت مرحلة أخرى، حيث كان المشهد الذي ظهر في الأفق هو خط أفق أصفر يمتد إلى ما لا نهاية.
لما تزاحمت الأفكار في رأسي، فجأة ظهرت في مجال رؤيتي لوحة صخرية ضخمة في منتصف الطريق. كانت هذه اللوحة ملفتة للنظر باللونين الأبيض والأخضر، وعليها نقش بارز لكلمات "منطقة تيدا للتعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين ومصر" وكأنها الخط الفاصل بين الصحراء الجافة ومنطقة الواحات الخضراء. شعرت حينها بسعادة غامرة. عندما توقفت السيارة، خرجت سريعًا ودخلت منطقة التعاون المظللة بأشجارها، وكان المشهد هناك مختلفًا تمامًا عن المشاهد التي شاهدتها على طول الطريق. كان هناك طريق عريض ومستقيم مغطى بالإسفلت، وعلى جانبيه امتدت أشجار النخيل ونخيل التمور الضخمة، وكانت تلك الأشجار تقدم ظلالًا نادرة تحت أشعة الشمس الحارقة، وانتشرت أشجار الجهنمية الوردية والبيضاء بين المباني المكتبية الصفراء والمنشآت الصناعية والفنادق والشقق والمتاجر والبنوك، كما نما العشب الكثيف بوفرة على الأرض وجلست عليه مجموعات من الناس هنا وهناك...
لم يكن لديّ الوقت للراحة. بدلاً من ذلك، طلبت بسرعة من الموظفين التوغل أكثر داخل منطقة تيدا للتعاون. بدأت أرى واجهة المنطقة، المباني الصناعية القياسية الحديثة ترتفع واحدة تلو الأخرى، الشوارع الواسعة في المنطقة تتقاطع مع الحدائق، والشاحنات الكبيرة تتنقل ذهابًا وإيابًا. كل هذا يتناقض بشكل واضح مع الصحراء الشاسعة المحيطة بالمنطقة، بدت المدينة الجديدة كنموذج مشرق للصناعة الخضراء.
عندما وصلت السيارة إلى حدود منطقة الانطلاق ومنطقة التوسع، أذهلتني شجرة كبيرة تتوسط هذا المكان الخاوي الذي لا يحيط به شيء، بدت مجرد لمسة من اللون الأخضر. كانت تقف بكبريائها وقوتها بهذا المكان.
لما اقتربنا من هذه الشجرة الكبيرة، شهدنا منظرًا رائعًا لا يمكن وصفه إلا بالإعجاب والاحترام. بصحبة زميلي ليو، لم نعد قادرين على استخدام الكلمات المعتادة مثل "اختراق السماء" لوصف هذا المنظر. هذه الشجرة ببساطة نبتت مباشرة من الصحراء، كمنبع أخضر دائم الجريان، فأغصانها الكثيفة تمتد من الأرض مباشرةً نحو السماء، تفرعت وانتشرت في جميع الاتجاهات ولكنها كانت قوية وثابتة بشكل لا يصدق، مما يُظهر حيويتها القوية.
كان من الصعب تصور وجود هذه الشجرة الفريدة داخل منطقة تيدا للتعاون. السيد شو الذي عمل في هذا المكان لفترة طويلة، شرح لنا بعناية تاريخ هذه الشجرة الرائعة.
هذه الشجرة القديمة تسمى الغلاديشية الصينية، وهي شجرة معمرة تنمو عادة في الصحاري أو الأراضي القاحلة. يستغرق الأمر سنوات عديدة من البذرة حتى تنمو وتصبح شجرة. محافظة السويس في مصر هي واحدة من أكثر الأماكن جفافًا في العالم، حيث يبلغ معدل هطول الأمطار السنوي بها أقل من 10 ملم، وتتكون الأرض هناك بشكل رئيسي من الصخور مع قليل من التربة. تعيش هذه المنطقة في ظروف جافة للغاية لفترات طويلة، مصحوبة بأشعة الشمس الحارقة والرياح العاتية، وباستثناء الغلاديشية الصينية، بالكاد يوجد أي نبات آخر في العالم يستطيع تحمل مثل هذه البيئة القاسية. جذورها تمتد بعمق كبير في الأرض وتصل إلى مجاري نهرية قديمة تحت الأرض، حيث تستمد مصدر حياتها. يمتد تاريخ هذه الغلاديشية الصينية لأكثر من مائة عام، وقبل 15 عامًا عندما بدأ بناء منطقة تيدا للتعاون لأول مرة، كانت واقفة هنا مثل شيخ كبير مر بسنوات طويلة من الصعاب ومغطى بتقلبات الدهر، فكانت شاهدة وحامية لتطور منطقة تيدا للتعاون.
حدّقت بعناية إلى هذه الشجرة، وجدت أنها عمل فني مصقول بواسطة الطبيعة ببراعة عبر العصور منحوت عليها تأثير الزمن. من أين يمكن أن نجد عملًا فنيًا بهذه القوة والمتانة؟ لمست الشجرة بيدي بحذر، أردت أن ألمس حرارتها بشكل أفضل وأشعر بطاقتها، وأفهم بعمق هذه المعجزة الحية التي نشأت من الصحراء.
أكنّ مشاعر غير عادية تجاه الأشجار منذ الطفولة، حتى يمكنني القول أنني مولع بها بشكل غير عادي. أنا مقتنع بأن الأشجار مثل البشر، تملك مشاعر وعواطف، وربما تكون مشاعر الأشجار أكثر إصرارًا حتى من مشاعر البشر. عندما تسقط بذرة شجرة في مكان ما، فإنها ستتجذر وتنبت وتزدهر، لتظهر خصوبة الحياة وعدم قابليتها للتدمير. جذور وفروع وأوراق وجذع الغلاديشية تثبت هذه النقطة تمامًا.
شجرة واحدة هي بمثابة تاريخ قائم، وتلك الشجرة التي تقف أمامي تروي تاريخها بصمت. بعد أن انبثقت الغلاديشية على سطح الأرض، انقسمت إلى جذعين سميكين وقويين، متواجدين بجوار بعضهما البعض، متوجهين معًا نحو السماء. جذورها تمتد عميقًا تحت الأرض الداكنة، لتجعل أساسها قويًا. هذا هو جهدها في تعمق جذورها والتماسها لمصدر حياتها، وهو أساس وجودها وحياتها. فروعها القوية تنمو بكثافة ومليئة بشوك صغيرة. على الرغم من أنها رقيقة مثل عصا، إلا أنها تبدو وكأنها مظلة خضراء كبيرة مفتوحة، هذه هي عزيمتها وصمودها أمام الحر الشديد. أوراقها كثيفة وصغيرة جدًا لتقليل فقدان المياه، وهي تبدو رمادية اللون بدلاً من اللون الأخضر، هذه هي ابتسامتها ورأسها المرفوعة نحو أشعة الشمس الحارة. ساقها كبيرة وسميكة، ولها تجاعيد وثنيات على كامل جسدها، مثل الأوردة البارزة على ذراع شخص عجوز والتجاعيد العميقة في وجهه، هذه هي نتيجة تراكم الزمن وآثار مروره. أعلم أن هذه هي نتيجة تحملها للشدائد والحرارة والمصاعب التي لا حصر لها، هذا هو عزمها وقوتها واحتفاظها بروحها العظيمة وعزيمتها القوية.
الكائن الوحيد الذي يعيش لفترة أطول من حياة الإنسان ويعتمد على البقاء المتبادل هو الشجرة. الشكل الذي تظهره جذور وفروع وأوراق وساق الغلاديشية الصينية هو تعبير ضمني عن الروح والفكر والثقافة والتوريث. أليس كذلك؟ جسدها الضخم متمايل تحت السماء الزرقاء، مما يخلق منظرًا فريدًا لواحة في الصحراء.
لما غادرتُ الغلاديشية الصينية في ذلك اليوم، كانت الشمس قد غربت بالفعل. على الرغم أني قد تصببت عرقًا بسبب الحرارة الشديدة، إلا أن مزاجي كان منتعشًا مثل الهواء.
قبل أن آتي إلى هنا، قرأت الكثير من المعلومات ورأيت الصور، لكنها لم تكن كافية لتجربة سحر هذه المدينة الجديدة بشكل حقيقي. في تلك الليلة، تحدث مع الزملاء العاملين في منطقة تيدا للتعاون حتى بزوغ الفجر بدءً من شجرة الغلاديشية الصينية تلك إلى تطور المنطقة. كان الزملاء يفتخرون بعرض سلسلة من الإنجازات الرائعة. بعد مرور 15 عامًا، أصبحت منطقة التعاون الصناعية معترفًا بها من قبل حكومتي الصين ومصر باعتبارها تتمتع بأفضل بيئة شاملة، وأعلى كثافة استثمارية، وأعلى إنتاج للوحدات، وأعلى تجمع للشركات الصينية، وتجاوز حجم الاستثمارات الفعلية بها 1.7 مليارات دولار أمريكي، وبلغ إجمالي المبيعات أكثر من 3.8 مليارات دولار أمريكي، وقد تم تسديد أكثر من 200 مليون دولار أمريكي من الضرائب والرسوم، ووفرت أكثر من 5000 فرصة عمل مباشرة، كما توفر الصناعات فرص عمل لحوالي 50 ألف شخص. على الرغم من الوقت المتأخر، كان الزملاء يشعرون بحالة من الحماس عند تقديمهم لهذه الإنجازات، تمامًا مثل درجة الحرارة في مصر، التي ارتفعت إلى مستويات متسارعة.
كل الكائنات متساوية، والبقاء للأقوى. عندما تسقط بذرة على الأرض، إذا كانت الظروف مناسبة مثل التربة والمياه وأشعة الشمس، فإن لهذه البذرة الحق في النمو والقدرة على البقاء. بفضل عناية الله، ستنمو هذه البذرة حتى تصبح شجرةً كبيرةً.
هذه الغلاديشية الصينية في الصحراء، تسجل الأحداث بصمت وهي أكبر بكثير من ذاكرتنا. تعبر عن صلابتها وإصرارها وصمودها وإيمانها من خلال آثار نموها وجذورها العميقة، وأفرعها النابضة بالحياة، وأوراقها الكثيفة والرمادية الخضراء، والساق القديمة الملتوية. تسجل هذه الشجرة تغيرات الزمن التي مرت بها.
لكل مخلوق في هذا العالم دور وغرض، ولكل شيء في الطبيعة قصة وأصل. شكل الغلاديشية الصينية هذه، مع جذورها وأفرعها وأوراقها وساقها، هل يعكس تمامًا مبادئ تطوير منطقة تيدا للتعاون في الجذور العميقة والتجمع الصناعي المتجانس والخدمات الصناعية المتقدمة والبنية التحتية المتكاملة؟
نعم، إن مياه نهر النيل والنهر الأصفر هي التي تسقي شجرة الغلاديشية الصينية هذه.
اليوم الأول لم أشاهد ما يكفي، لذلك لم أستطع أن أنام تلك الليلة وكنت دائمًا أفكر في هذه الشجرة. في اليوم الثاني، وقبل طلوع الشمس، زرتها مرة أخرى. وقفت أمامها متأملًا، لمست الشجرة بيدي وعانقتها بجسدي، وأمعنت تفكيري فيها. ثم، بحذر، سكبتُ مياهًا من دلوين أحضرتُهما معي خصيصًا على جذور الغلاديشية الصينية.
بعد أن انتهيت من سكب المياه، لم أتردد في الانحناء لهذه الشجرة احترامًا لها. كلما نظرت إليها، شعرت بالامتنان أكثر، فانحنيتُ لها مجدداً. أدرتُ ظهري والتفتُ إليها، وانحنيتُ لها مرة أخرى. حينما رحلت، ودعتها على مضض بكل احترام واعتزاز.
أتمنى وأصلي من أجل أن تزداد عمقًا في الجذور، وكثافةً في الأفرع والأوراق، وقوةً في الساق.