مفتي الجمهورية: الإفتاء تحملت مسئوليتها تجاه القضية الفلسطينية ومثلت حائط صد منيعا أمام التهجير
افتتح الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، فعاليات الندوة الدولية الثانية للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم تحت مظلة دار الإفتاء المصرية، والتي تُعقد هذا العام تحت عنوان "الفتوى وقضايا الواقع الإنساني: نحو اجتهاد رشيد يواكب التحديات المعاصرة".
وعبر مفتي الجمهورية، في كلمته، عن اعتزازه الكبير بالرعاية الكريمة التي يوليها الرئيس عبدالفتاح السيسي لهذا الحدث العلمي المتميز، مؤكدا أن تلك الرعاية تمثل دعما مستمرا من القيادة السياسية لمسيرة الإفتاء الرشيد.
وتوجه مفتي الجمهورية بالشكر إلى المشاركين في الندوة، مثمنا حضورهم العلمي والفكري، مؤكدا أن عنوان الندوة يعكس مدخلا أصيلا في صناعة الفتوى، ويقوم على الربط بين المقدمات الراسخة والنتائج المثمرة التي تخدم الإنسان وتحفظ مصالحه.
وأوضح أن القرآن الكريم أسس منهجا فريدا في التعامل مع الواقع، تجلى في منهج "يسألونك"، هذا المنهج الذي يصون الإنسان في كل ما يتعلق به، روحا وعقلا وقلبا، ويصونه علما وعملا، ويصونه دنيا وآخرة، ويصون علاقته بنفسه فردا وعلاقته بغيره شريكا في المجتمع.
وتابع فضيلة المفتي، أن نزول القرآن منجما جاء استجابةً للحوادث الطارئة والأسئلة المتجددة، وهو ما يمثل إعجازا في مطابقة الخطاب للواقع وفهم احتياجات الناس في ظروفهم المختلفة.
وأكد أنه قد تبين للعلماء أن هذا التنزيل المتدرّج كشف عن إعجاز بديع في مطابقة الخطاب للواقع، وفهم احتياجات الناس في ظروفهم المختلفة، ولما عاب الكفار نزول القرآن على هذا النحو، وقالوا: "لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً"، جاء الجواب الإلهي: "كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا"، أي كذلك لنثبت به فؤادك بما ينزِل من آيات تتعلق بالواقع وحركة الناس فيه.
ولفت مفتي الجمهورية النظر إلى أنه من وحي هذا المنهج القرآني، القائم على استحضار الواقع وإدراك تعقيداته، تأتي هذه الندوة المباركة لتؤكد أن الفتوى في شريعتنا ليست حكما يُلقى في فراغ، ولا قولا منفصلا عن سياقه، بل هي صناعة علمية راسخة؛ تقوم على أصالة الدليل، وتستنير بالمقاصد، وتراعي المآلات، وتستوعب مستجدات العصر وتشابكاته.
وأشار إلى أن دار الإفتاء المصرية تبنت منهجا اجتهاديا متوازنا، يربط بين الثوابت والمتغيرات، ويحفظ كرامة الإنسان، ويعينه على مواجهة تحديات العصر، سواء في قضايا الأسرة، أو الأزمات الاجتماعية، أو التحولات الرقمية، أو أسئلة الأخلاق والهُوية، موضحا أن "اجتماعنا اليوم شاهد على هذا الجهد الذي يسعى إلى تقديم خطاب ديني رصين، يجمع بين الحكمة والفقه العميق، ويسهم في بناء وعي إنساني قادر على مواجهة التحديات بوعي مستنير".
وفي سياق حديثه عن التحديات العالمية، أشار مفتي الجمهورية إلى أن العالم يعيش حالة من الاضطراب الإنساني العميق، تتجلى في اتساع رقعة الحروب، وتسارع الكوارث، وتفاقم التحديات الاقتصادية والصحية والبيئية، وهو ما يضاعف مسئولية الفتوى المؤسسية، ويجعلها صمام أمان لحماية الإنسان وصيانة المجتمع، مؤكدا أن الفتوى لم تعد اجتهادا فرديا يجيب عن سؤال عارض.
كما بين أن دار الإفتاء المصرية بادرت مبكرا لمواجهة هذه التحديات، من خلال تأسيس دليل إجرائي لفتاوى الطوارئ يضبط الاجتهاد في أوقات الأزمات، ويحول الفتوى من مجرد رأي شرعي إلى أداة تدخل واقعية تساعد صناع القرار، وتدعم الدولة في برامجها الصحية والاجتماعية والتنموية، وهو ما تجلى بوضوح خلال جائحة كورونا التي شهدها العالم؛ حيث قدمت الدار نموذجا رائدا في التكييف الشرعي الدقيق، الذي جمع بين احترام العلم الحديث واستحضار المقاصد الشرعية، فكانت فتاواها سببا في تهدئة المخاوف، ومنع الفوضى بما يحفظ الأرواح ويصون الأمن المجتمعي، وأسهمت تلك المنهجية المؤسسية في الحد من فوضى الفتاوى التي تصدر عن غير المتخصصين، والتي تهدد الوعي وتُربك المجتمع، وتُخِل باستقرار الدولة.
وتناول دور دار الإفتاء تجاه القضية الفلسطينية، مؤكدا أنها تحملت مسئوليتها تجاهها، عبر بناء خطاب إفتائي مؤسسي راسخ، يهدف إلى ضبط الوعي الديني وتوجيه أنماط التفاعل مع القضايا الإنسانية الكبرى، بعيدا عن الانفعال الخطابي أو التوظيف السياسي للدين، وأن غزة لم تكن بعيدة عن عقل دار الإفتاء المصرية فحرَرت الفتاوى التي تصون الأرض، وتحفظ الأمة، وتمثل حائط صد منيعا أمام محاولات التهجير، وتفضح هذه الجرائم المنكرة التي لا يُقرها دين ولا قانون ولا عُرف، ودعت في الوقت نفسه إلى التطوع لإعانة المتضررين وإغاثتهم.
وتابع: "اتخذت دار الإفتاء سُبل المواجهة وبيان الحق من خلال مسارات واعية؛ من أبرزها التأكيد الصريح على عدالة القضية الفلسطينية، ومشروعية حقوق الشعب الفلسطيني تأكيدا شرعيا ثابتا، يرسخ الحق ولا يساوم عليه، فضلا عن تفكيك الخطابات الزائفة التي تسعى إلى تزييف الوعي أو توظيف المفاهيم الدينية في غير سياقها، بما يحفظ الدين من الاستغلال، ويحمي القضية من التشويه".
كما لفت الانتباه إلى أن الدار سعت إلى ترشيد آليات التضامن المشروع، عبر ضبط منازل الأحكام، واعتبار المآلات، ومنع الفتاوى الانفعالية التي قد تهدر مقاصد الشريعة باسم الدفاع عنها، مشيرا إلى أنه من خلال هذه النماذج، تحولت الفتوى من مجرد بيان للحكم إلى أداة معرفية توعوية، تسهم في بناء وعي عام منضبط، يُعنى بنصرة القضايا العادلة دون أن يقحمها في مسارات تضر بها، ويوازن بين حفظ الحقوق الإنسانية، وصيانة مقاصد الشريعة، واستقرار المنطقة.
وذكر مفتي الجمهورية، أن الفتوى الرقمية الرشيدة باتت ضرورة مُلحَّة في عصر العولمة الرقمية، موضحا أنها لا تقتصر على استخدام الوسائل التقنية، بل تُمثل إطارا متكاملا لتعزيز الوعي.

