رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

مقالات الرأي

دى مش أنا

ماهر المهدي
ماهر المهدي

كنا نعيش فى مصر منذ عقود من السنين البعيدة، كنا أسرة كبيرة مترامية الأطفال تعيش كما يعيش الناس وتمضغها الأيام معظم الوقت، وتتركها على قارعة الطريق فى ظل فرحة صغيرة بعض الوقت أيام وأيام كما يقولون، وفى الطفولة لا نعى إلا قليلًا، ونرى فى القليل حلوًا وسعدًا، لأننا لا نعرف الكثير ولأن الكثير لا يعرفنا، وعندما طرقت بابنا الخاطبة وهممت فى أذن أمى هممات قصيرة متقطعة، تبدل وجه أمى سريعًا وأنارته الأمانى كما لم ينره شيء من قبل، فحياة أمى عمل فى عمل منذ فجر اليوم حتى تضعنا أنا وأخوتى فى معية النوم وأمنه وتسلم قيادها إلى آلامها وأوجاعها وكدها وتغمض عينيها المنهكتين، ودبت فى بيتنا حركة واسعة ملؤها النشاط من أجل تزيين البيت البسيط وأثاثه المتواضع، لماذا؟ لاستقبال ضيوف هامين كما قالت أمى، وبعد إلحاح طويل ومطاردة حثيثة لأمى فى أرجاء البيت سلمت أمى وتراجعت عن صمتها لتحكى لى أنا وأخوتى عن النشاط الكبير.


قالت أمى: مبروك يا فاتن جالك عريس يا ابنتى، جالك عريس غنى من بلاد برة، وسوف يأخذك معه ليريك ما لم تره أمك ولا رآه أبوك، خير إن شاء الله يا ابنتى، سوف يكون هذا الزواج خيرًا كثيرًا، وسوف تسعدين بعه وتسعدينا معك أنا وأخوتك أيضًا، وصمتت أمى لبرهة طويلة غيبتها عنا تمامًا، حتى ظننا أنها أصيبت بشيء أو ألم بها خطب ما وهى أمامنا، ثم قالت: المال يا ابنتى... المال يا ابنتى شيء مهم فى هذه الدنيا، وإن لم يكن أهم شيء، ولذلك، فقد وافقت على زواجك يا ابنتى، رغم أعوامك الثلاثة عشرة فقط، فأنت ما زلت طفلة حقًا فى عينى وفى أعين الكثيرين، ولكن الزواج أيضًا رزق ومكسب ومستقبل طيب لمن فهمن الحياة وخبرن كنهها ومآلها. 


علا على بابنا طرق غريب متتابع فسكتنا جميعًا ودلفنا إلى غرفة مجاورة للباب الخارجى، وهبت أمى من فورها إلى الباب ففتحت ثم تبادلت حديثًا قصيرًا مع أحدهم ثم أغلقت الباب وعادت إلينا فرحة، قالت:  خير يا أولاد، إن الأمور تمضى على ما يرام، لقد أرسلت الخاطبة فى طلب شهادة ميلادك – كما اتفقنا من قبل– وسوف يقوم الرجل بتدبر أمر سنك يا فاتن، وغدًا ستصبحين فى الثالثة والعشرين من عمرك فى شهادة ميلادك، وسوف نفرح بك ونراك عروسة جميلة فينا ونبارك لك وأنت تستعدين لركوب الطائرة التى لم نرها من قبل ولم نسمع عنها. 


فرحت أنا وأخوتى كثيرًا ومضينا نلعب معًا لساعات طويلة دون أن تنهرنا أمنا أو تأمرنا بالتوقف أو الصمت، كأنه كان يوم احتفال مبروك، فى اليوم التالى صار بيتنا كساحة رياضية أو سوق صغيرة من كثرة المترددين عليه، بينما علت الفرحة وجه أمى وفرحت أنا وأخوتى لفرحها، وقد انعكست الأدوار ففرحنا نحن لفرح أمنا كما تفرح هى لفرحنا طوال الوقت.  


فى الصباح قالت لى، والسيارة تنهب الطريق مع بعض ممن زارونا بالأمس: الآن أصبحت زوجة يا فاتن، وسوف تغادرين مصر مع زوجك هذا إلى بيتك لتبدئى حياة جديدة سعيدة هناك، وسوف نراك قريبًا أنا وأخوتك ونهنئك وزوجك يا ابنتى، 


صرت زوجة وصرت امرأة بعد قليل ولم أفهم بعد ما حدث، ولكنى عرفت أن لى بيتا ورجلًا أحل معه وأرحل معه ولدى من الخيرات الكثير، وأرسل إلى أمى وأخوتى الكثير أيضًا، ولكنى لم أفهم بعد. 


الأيام تمضى بجوارى ومن حولى فى هدوء وسكينة ونعمة، فزوجى يكبرنى بسنين كثيرة ولكنه رجل محترم ومن قبيلة ذات شأن ويشغل وظيفة مرموقة، ومن كان ذا نعمة فى هذا البلد العربى، فلا يتعب ولا يشقى، فلا يشقينى شيء فى حياتى الآن سوى أنى أنظر خلفى وفوق كتفى يمنة ويسرى، كأننى أحاسب الأيام أو أحاسب أهلى أو أحاسب نفسى أو أحاسب زوجى لأننا لم ننجب أولادًا أو لأنه تزوجنى يومًا ما،  لقد تجازوت الأربعين من العمر وأنا فى هذا البلد الذى صرت أحبه، ولكن البرد يتسلل إلى قلبى، فلم يعد زوجى لى وحدى بعد أن تزوج بأخرى من بلده لتنجب له أولادًا، وصرت أنتظر رؤيته كل حين، حتى وظيفتى التى تجعلنى جزءًا من هذا الكون وتجعلنى أستيقظ فى الصباح، توشك أن تنسل من بين أصابعى بعد سنوات قليلة، لأننى أصل إلى الستين عامًا، بينما أنا فى الحقيقة أصغر من ذلك بعشر سنوات كاملة، عشر سنوات ضحيت بها منذ عقود لأصبح زوجة الغنى وطليقة العوز وأصبح زوجة طفلة.   


من يصدق أننى أحال إلى التقاعد الآن، ويفرض على أن ألازم بيتى لأعد الأيام والليالى والنجوم والساعات كل يوم وأمضى وقتى فى حالة انتظار دائم؟! ولما تنقلب سعادة الأمس شقاوة وتعاسة فى اليوم والغد؟ كان الأمس بهيًا ملونًا مليئًا بتوقعات كثيرة أراها تنحسر عن شاطئ رويدًا رويدًا، هذا معتاد فى الحياة، ولكنى ما زلت مصرة على رأيى: دى مش أنا.