رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

مقالات الرأي مقال رئيس التحرير

إذا سألت عن العدل فى بلاد المسلمين.. فقل إن العدل عمر !!

هكذا هى دنيا المال سرعان ما تنقضى  .. هكذا هى دنيا المال سرعان ما تمضى ... هكذا هى دنيا المال سرعان ما تمر فلا تكفى...

 

هكذا هى دنيا المال سرعان ما تمر أيامها ... سرعان ما تنتهى ساعاتها ولحظتها.. بحلوها ومرها.. بحسنها وقبحها.. بجميلها وسيئها.. 

 

أقول ذلك حتى أدلل على أن المال لا قيمة له دون توجيهه وترشيده.... أقول ذلك حتى أدلل على أن المال لا قيمة له دون تحجيمه وصرفه فى المصارف الصحيحة.. أقول ذلك حتى أدلل على أن المال لا قيمة له دون توظيفه كما جاء فى شرعنا الحنيف.. وديننا المجيد.. من رب السماوات والأرض «الفعال لما يريد».. 

 

أقول ذلك بعد أن عشنا أيامًا قصيرة مع دنيا المال فى عهد الفاروق عمر «رضى الله عنه».. أقول ذلك بعدما أشرنا لبرهات قلائل عن المال.. مع كونه أى مال!!!!!.. إنه ذلك المال الذى يجعل الناس تميل إلى الوجه الصحيح.. إنه ذلك الذهب الذى لا يجعل الناس تذهب إلى مناطق البهتان الصريح.. أنها تلك الفضة التى لا تجعل الناس ينفضوا كالريح... 

 

أقول ذلك لأننا ننتقل من دنيا المال إلى دنيا العدل ... ننتقل من دنيا المال إلى دنيا الحقيقة.. ننتقل من دنيا المال إلى دنيا الشفافية الواضحة الصريحة... إنها دنيا المؤسسات العادلة ... المؤسسات التى ترفع راية الحكم بين الناس.. المؤسسات التى ترفع شعار «إعطاء الأمانة»... المؤسسات التى تطبق قوله تعالى:«وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» سورة المائدة........ وكذلك قال تعالى: «وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ» سورة ص . 

 

وليس القرآن وحده وإن كان هو الكافى.. ولكن السنة النبوية الشريفة العطرة تأتى كعادتها لتبين ما كان مجملا .. وتوضح وتشرح وتستفيض ... فعن أبى الدرداء «رضى الله عنه» قال: قال رسول الله «صلى الله عليه وسلم»: « أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ : صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِى الْحَالِقَةُ » قَالَ الترمذى : وَيُرْوَى عَنْ النَّبِى «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم» أَنَّهُ قَالَ : (هِى الْحَالِقَةُ ... لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ... وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ)...

 

أقول ذلك لأننا سنعيش مع المؤسسات القضائية فى عهد ابن الخطاب «رضى الله عنه».. وكيف أنها كانت مثالًا يدرس.. وعبر تسجل... ومواعظ وعظات تقشعر لها الأبدان فرحًا... 

 

نبدأ هذه الدروس والعبر والمواعظ والعظات... دروس الفاروق .. وعبر العادل.. ومواعظ عمر.. وعظات ابن الخطاب «رضى الله عنه»... وذلك حين انتشر الإسلام.... واتسعت رقعة الدولة فى عهده ... وارتبط المسلمون بغيرهم من الأمم.... دعت الحالة الجديدة التى قام بها ابن الخطاب... إلى تطوير العديد من المؤسسات سواء السياسية أو الدعوية أو المالية... وقد سبق التطرق لهم من قبل... ولكن ما أضافه كذلك الفاروق العادل إلى هذه المؤسسات .. كانت  مؤسسة القضاء.... 

 

إذ كثرت مشاغل أمير المؤمينن «عمر بن الخطاب» وكذلك كثرت أعمال الولاة فى الأمصار.... وزاد النزاع والتشاجر بين فئات الشعب من العمال والتجار..  حينها رأى عمر «رضى الله عنه» أن يفصل الولايات بعضها عن بعض وأن يجعل سلطة القضاء مستقلون... حتى يتفرغ الوالى لإدارة شؤون ولايته.... فأصبح للمؤسسة القضائية قضاة مستقلين عن الولايات الأخرى.... كولاية الحكم والإدارة... فكان عمر بهذا أول من جعل للقضاء ولاية خاصة.... فعين القضاة فى الأمصار الإسلامية.... فى الكوفة والبصرة والشام ومصر... وجعل القضاء سلطة تابعة له مباشرة... سواء كان التعيين من الخليفة... أو كان بتفويض أحد ولاته بذلك نيابة عنه... 

 

نعم كان عمر أول من فطن إلى مبدأ فصل السلطات .. نعم كان عمر أول من فطن إلى مبدأ القضاء المستقل ... أين أنتم أيها الأنظمة الحديثة؟؟!!! .. أين أنتم يا دعاة القانون؟؟!! ... أين أنتم يا مجالس العالم النيابية على اختلاف المسميات؟؟!!!!... نعم أين أنتم من الفاروق العدل؟؟!!!.. نعم أين أنتم من ابن الخطاب؟؟!! .. نعم أين أنتم من عمر أول أمير للمؤمنين؟؟؟!!... 

 

سبحان الله عليك يا عمر لقد تفردت فى كل شىء... سبحان الله عليك يا عمر لقد أرسيت قواعد كل شىء ... أو تلك القواعد التى فى الاستطاعة... سبحان الله عليك يا عمر لقد وضعت منهاجًا للمسلمين ظلوا حتى الآن أن لم يفعلوه يدرسوه ... ظلوا حتى الآن يرددون اسمك مع صفة العدل ... ظلوا حتى الآن يذكروا دولتك وأنها قامت على العدل ... ظلوا حتى الآن يقولون ويتساءلون أين العدل فى بلاد المسلمين؟؟!!!... فلا يجدون الإجابة!!! ... لأنه قد مات عمر!!!!... 

 

نعم وإن كان عمر الآن مع النبيين والصديقين والشهداء .. إلا أننا ها نحن نستعيد ذكراه .. لنتذكر سيرته العطرة .. نتذكر أيامه الروائع .. نتذكر حياة بطل .. بطل من رحم الإسلام .. بطل من رحم القرآن الذى كان ملهمًا به وله ... بطل من أبطال الرسالة الأبدية .. والدعوة المحمدية ... 

 

هكذا قام «رضى الله عنه» بتطوير المؤسسة القضائية وما يتعلق بها من أمور.... وأصبح فى عهده مبدأ فصل القضاء عن غيره من السلطات واضحًا فى حياة الناس ولم يكن استقلال ولاية القضاء مانعًا لعمر «رضى الله عنه» من أن يفصل فى بعض القضايا.... وربما ترك بعض ولاته يمارسون القضاء مع السلطة التنفيذية.... ويراسلهم فى الشؤون القضائية..... فقد راسل المغيرة بن شعبة فى أمر القضاء وكان واليه على البصرة ثم الكوفة.... وراسل معاوية واليه على الشام فى النزاع القضائى..... وراسل أبا موسى الأشعرى فى شأن بعض القضايا..... وكان القاضى يعين للولاية كلها.... سواء أكان تعيينه من قبل الخليفة أم كان من قبل الوالى بأمر الخليفة..... وكان مقر القاضى حاضرة الولاية وإليه ترجع السلطة القضائية فى ولايته... وقد تم فصل السلطة القضائية فى الولايات الكبيرة على الغالب.... مثل «الكوفة، ومصر» وقد جمع لبعض ولاته بين الولاية والقضاء إذا كان القضاء لا يشغلهم عن شؤون الولاية.... وراسلهم بهذا الوصف فى شؤون القضاء.... وأنه كان يقوم بالقضاء فى بعض الأحيان مع وجود قضاة له بالمدينة.... 

 

ومن القضاة الذين قصرهم الفاروق فى خلافته على القضاء وحده:

-  عبد الله بن مسعود: ولاه عمر قضاء الكوفة، فقد روى قتادة عن مجلز أن عمر بن الخطاب بعث عمار بن ياسر على صلاة أهل الكوفة، وبعث عبد الله بن مسعود على بيت المال والقضاء...

-  سلمان بن ربيعة: ولاه عمر القضاء على البصرة ثم القادسية...

-  قيس بن أبى العاص القرشى تولى قضاء مصر...

 

وأما الذين جمعوا بين الولاية والقضاء فمنهم:

-  نافع الخزاعى والى مكة، ذكر ابن عبد البر أن عمر بن الخطاب«رضى الله عنه» استعمله على مكة وفيهم سادة قريش... ثم عزله وولى خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومى...

 - يعلى بن أمية والى صنعاء...

-  سفيان بن عبد الله الثقفى والى الطائف...

-  المغير بن شعبة والى الكوفة....

-  معاوية بن أبى سفيان والى الشام...

-  عثمان بن أبى العاص الثقفى والى البحرين وعمان...

-  أبو موسى الأشعرى والى البصرة...

-  عمير بن سعد والى حمص....

 

ومن هؤلاء من أبقاه الفاروق على القضاء مع الولاية... كما فعل مع معاوية... ومنهم من فصل القضاء عن سلطته وقصره على الولاية كما فعل مع المغيرة... وأبى موسى الأشعرى... ومن قضاة الفاروق بالمدينة:

-  على بن أبى طالب...

-  زيد بن ثابت رضى الله عنه فقد روى عن نافع: أن عمر استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقًا..

-  السائب بن أبى يزيد...

 

هكذا هى شخصية القيادة الإسلامية التى تمثلت فى شخصية الفاروق العادل... هكذا هى شخصية العدالة الإنسانية التى تمثلت فى شخصية ابن الخطاب.. هكذا هى شخصية الرحمة البشرية التى تمثلت فى عمر «رضى الله عنه».. هكذا هى الشخصية التى لم تكن عاجزة عن وضع قواعد أصلية... فى تنظيم الدولة وترتيب شؤونها... وتحديد سلطاتها.. وإذا كانت أوروبا قد اكتشفت هذه القاعدة بصورة نظرية فى القرن الثامن عشر.... واعتبرتها فتحاً جديداً فى تنظيم الدولة.... وفى رعاية حقوق المواطنين.... ولم يكتب لهذه القاعدة التطبيق العملى إلا فى أوائل القرن التاسع عشر..... أى بعد الثورة الفرنسية... 

 

فإن الإسلام قد أقرّها قبل أربعة عشرة قرنًا... فإن الإسلام قد أرساها قبل أربعة عشرة قرنًا.. فإن الإسلام قد ثبت أركانها قبل أربعة عشرة قرنًا.. فإن الإسلام قد وضع منهجها قبل أربعة عشرة قرنًا... والأهم من كل هذا أن الإسلام طبقها قبل قبل أربعة عشرة قرنًا ....  

 

 

 

وقد كان الأصل فى هذا فى زمن الرسول.... حين أرسل معاذ إلى اليمن وسأله رسول الله .... بما تقضى يا معاذ؟!....  فبين معاذ: «أنه يقضى بكتاب الله.... فإن لم يجد فبسنة رسول الله... فإن لم يجد يجتهد رأيه ولا يألو».. فأقره الرسول على ذلك.... 

 

وأتى عمر «رضى الله عنه» ليكمل ما بدأه الرسول «صلى الله عليه وسلم» فوضع الفاروق دستورًا قويمًا فى نظام القضاء والتقاضى.. كما أنه اهتم كثير من أعلام الفقه الإسلامى بشرح هذا الدستور والتعليق عليه... 

 

فها هو الدستور العمرى فى القضاء تظهر معالمه .. 

ها هو الدستور العمرى يلوح مغردًا فى الأفق ... 

ها هو الدستور العمرى تنكشف أركانه وقواعده... 

ها هو الدستور العمرى يُرسى أساس الدولة فتضح معه كيانها... 

 

هذا الدستور الذى ظهر فى رسالته لأبى موسى الأشعرى وهذا نص الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم... من عبدالله بن لخطاب أمير المؤمنين إلى عبدالله بن قيس.... سلام عليك، أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة... وسنة متبعة.. فافهم إذا أُدلى إليك... فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.... آسِ بين الناس فى وجهك وعَدْلِكَ ومجلسك.... حتى لا يطمع شريف فى حيفك.... ولا ييأس ضعيف من عدلك... البينة على من ادّعى... واليمين على من أنكر... والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا... أو حرّم حلالًا... لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس.... فراجعت فيه عَقْلَكَ.... وهُدِيتَ فيه لرشدك: «أن ترجع إلى الحقِّ... فإن الحق قديم... ومراجعة الحق خير من التّمادى فى الباطل... الفهم الفهم .... فيما تلجلج فى صدرك مما ليس فى كتاب ولا سنة.... ثم اعْرِف الأشباه والأمثال.... فقس الأمور عند ذلك واعْمد إلى أقربها إلى الله.... وأشبهها بالحقِّ واجعل لمن ادّعى حقًا غائبًا أو بينة أمدًا ينتهى إليه.... فإن أحضر بيِّنته أخذت له بحقه وإلا استحْللت عليه القضيّة.... فإنه أنفى للشك... وأجْلى للعَمَى... المسلمون عدول.... بعضهم على بعض إلا مجلودًا فى حدِّ... أو مُجرّبًا عليه شهادة زور... أو ظنينا فى ولاء أو نسب... فإن الله تولى منكم السَّرائر... ودرأ بالبينات والأيمان... وإياك والغلق والضجر والتأذى للخصوم... والتنكر عند الخصومات.. فإن القضاء فى مواطن الحق يعظم الله به الأجر... ويحسن به الذُّخر... فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس... ومن تخلَّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه: شأنه الله فما ظنك بثواب الله عز وجل فى عاجل رزقه وخزائن رحمته... والـســــــلام...... 

 

إنها تلك الرسالة التى دهشت البشرية ... 

إنها تلك الرسالة التى أبهرت الإنساينة ... 

إنها تلك الرسالة التى أٌعجبت بها الدنيا بأسرها... 

إنها تلك الرسالة التى أنحى لها الناس إكبارا... 

إنها تلك الرسالة التى سجلها أساتذة القانون وتدارسوها.. 

إنها تلك الرسالة التى عدت مرجعًا قانونيًا فإذًا لا مثيل له... 

إنها تلك الرسالة التى جمعت الآداب والأصول للقانون المصون .... 

 

 

والله كم أحتاج من مجلدات لأصف فيها الرسالة.. ليس كلام يقال فى كتابة مقال... من أجل تصفيق أو انبهار .. وليس كلامًا يقال فى خطب العلماء من أجل آهات الإعجاب .. إنها الحقيقة التى لا تحتمل الشك... إنها الحقيقة التى لا تقبل الزيف.. إنه الدستور الذى لا ريب فيه إن جاز التعبير ... 

 

فهذه هى الرسالة التى طال العلماء فى شرحها والتعليق عليها طيلة قرون عدة.. ولا تزال موضع دهشة وإكبار لكل من يطلع عليها... ولو لم يكن لعمر من الآثار غيرها... لعد بها من كبار المفكرين والمشرعين... ولو كتبها رئيس دولة فى هذه الأيام التى انتشرت فيها قوانين أصول المحاكمات.... وصار البحث فيها مما يقرؤه الأولاد فى المدارس.... لكانت كبيرة منه.... 

 

فكيف وقد كتبها عمر منذ نحو أربعة عشرة قرنًا... ولم ينقلها من كتاب ولا استمدها من أحد.... بل جاء بها فى ذهنه....ثمرة واحدة من آلاف الثمرات.... للغرسة المباركة التى غرسها فى قلبه محمد.... حين دخل عليه فى دار الأرقم.... فقال: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» ...  

 

ولم تكن رسالة الفاروق إلى أبس موسى هى الوحيدة التى تستحق التدريس رغم عظمتها وقوتها وعلو مكانتها ...  ولكن كذلك رسالة عمر «رضى الله عنه» إلى أبى عبيدة ومعاوية.. فكتب إلى الأول قائلًا: أما بعد فإنى كتبت إليك بكتاب لم آلك ونفسى خيرًا... الزم خمس خصال يسلم لك دينك.... وتأخذ بأفضل حظَّيك: إذا حضر الخصمان فعليك بالبينات العدول... والأيمان القاطعة.... ثم ادن الضعيف حتى تبسط لسانه... ويجترئ قلبه... وتعهّد الغريب فإنه إذا طال حبسه ترك حاجته وانصرف إلى أهله.... وإنّ الذى أبطل من لم يرفع به رأساً.... واحرص على الصلح ما لم يستبن لك القضاء.... والســـلام 

 

وكتب «رضى الله عنه» إلى معاوية بن أبى سفيان «رضى الله عنهما»: «أما بعد... فإنى كتبت إليك بكتاب فى القضاء لم آلك ونفسى فيه خيرًا.. الزم خمس خصال يسلم لك دينك.... وتأخذ فيه بأفضل حظك... إذا تقدم إليك خصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة.... وأدْن الضعيف حتى يشتدّ قلبه وينبسط لسانه... وتعهد الغريب... فإنك إن لم تتعهده ترك حقه... ورجع إلى أهله... وإنما ضيع حقه من لم يرفق به... وآسِ بينهم فى لحظك وطرفك... وعليك بالصلح بين الناس... مالم يستبن لك فصل القضاء.... 

 

إنه الفاروق الذى يمكن لأى دارس كان أو متعمق فى العلوم القضائية أن يكون تلميذًا فى مدرسته العظيمة.. خريجًا من جامعته العريقة ..

إنه الفاروق الذى يمكن لأى دارس كان أو متعمق فى العلوم اللغوية أن يأخذ كلمات الفاروق مرجعًا له وما أحسنه مرجع.. أن يأخذ تلك الكلمات قاموسًا وما أجمله من قاموس.. 

إنه الفاروق الذى يمكن لأى دارس كان أو متعمق فى العلوم الفقهيه على وجه الخصوص أن يأخذ عباراته قاعدة دينية... وقياسًا شرعيًا... 

 

 

 

كما أنه «رضى الله عنه» كان يصدر قرار تعين القضاة بنفسه أو يكون التعيين من الوالى بتفويض من الخليفة... فعيّن عمرو بن العاص والى مصر وعثمان بن قيس بن أبى العاص قاضيًا بها فحق تعيين القاضى إلى الخليفة إن شاء عينه بنفسه... وإن شاء فوّضه إلى واليه.... ولم يكن تعيين القضاة مانعاً من أن يتولى الخليفة القضاء بنفسه.... لأن القضاء من سلطاته.... وهو الذى يتعهد بالقضاء إلى غيره.... فالحق الأول فى القضاء إليه ولا يكتسب القاضى الصفة القضائية إلا إذا عيّنه الخليفة بنفسه... أو بواسطة واليه... ويجوز للخليفة أن يعزل القاضى لسبب من الأسباب الداعية إلى ذلك... كما إذا زالت أهلية القاضى وصلاحيته للحكم.... أو ثبت عليه ما يخل بواجب القضاء... وإن لم يجد سببًا للعزل فالأولى أن لا يعزله... لأن القاضى معيّن لمصلحة المسلمين فيبقى ما دامت المصلحة محققة.. وقد عزل عمر «رضى الله عنه» بعض القضاة وولى غيرهم... مثلما عزل أبى مريم الحنفى، فقد وجد فيه ضعفًا فعزله...

 

فكان عمر «رضى الله عنه» يوصى الولاة باختيار الصالحين للقضاء.. وبإعطائهم المرتبات التى تكفيهم... فقد كتب إلى أبى عبيدة ومعاذ: انظروا رجالاً صالحين فاستعملوهم على القضاء وارزقوهم... وقد ذكر الدكتور العمرى مرتبات بعض القضاة فى عهد عمر «رضى الله عنه» وهى كالآتى: 

سلمان بن ربيعة الباهلى «الكوفة» 500 درهم كل شهر..

شريح القاضى «الكوفة» 100 درهم كل شهر... 

عبدالله بن مسعود الهذلى «الكوفة» 100 درهم كل شهر وربع شاة كل يوم...

عثمان بن قيس بن أبى العاص «مصر» 200 دينار...

قيس بن أبى العاص السهمى «مصر» 200 دينار لضيافته... 

 

هكذا كان يراعى عمر «رضى الله عنه» القضاة.. ويعطيهم حقهم.. لأنه لا يعقل أن يعطوا الحقوق لأصحابها من معاملات مالية وغيرها.. ولا يكونون هم أول الناس الذين يأخذون حقوقهم.. ولا يعقل أن يظلم أحد فى عهد ابن الخطاب فما بالكم بالقضاة!!!!.. 

 

كما أحسن الفاروق العادل اختيار القضاة... فكان لديه مجموعة من الضوابط والشروط التى دائما ما تكون المرجع والمنهج للاختيار... فكان منها:

- العلم بالأحكام الشرعية.. لأنها المرجع للمواقف والقضايا والدعاوى التى سوف تقابله ويحكم عليها من خلال أحكام واضحة ثابتة... هذا العلم بالأحكام مغلف بتقوى الله عز وجل.. فقد كتب عمر إلى معاذ بن جبل وأبى عبيدة بن الجراح أن انظرا رجالًا من صالحى من قبلكم فاستعملوهم على القضاء.... 

- كذلك لابد أن يكون القاضى مترفعًا عما فى أيدى الناس....فقد قال عمر «رضى الله عنه»: «لا يقيم أمر الله إلا من لا يصانع.... ولا يضارع... ولا يتبع المطامع»....

- يشترط أيضًا أن يكون القاضى فطنًا ذكيًا ينتبه إلى دقائق الأمور.... فعن الشعبى أن كعب بن سوار كان جالسًا عند عمر فجاءته امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلًا قط أفضل من زوجى... والله إنه ليبيت ليله قائمًا.... ويظل نهاره صائمًا فى اليوم الحر ما يفطر... فاستغفر لها وأثنى عليها وقال: مثلُك أثنى بالخير... قال: فاستحيت المرأة فقامت راجعة... فقال كعب: يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها.... قال: وما شكَت؟ قال: شكت زوجها أشد الشكاية... قال: أَوَ ذاك أرادت؟ قال: نعم... قال: ردُّوا علىّ المرأة، فقال: لا بأس بالحق أن تقوليه... إن هذا زعم أنك تشكين زوجك إنه يَجْنَبُ فراشك...قالت: أجل، إنى امرأة شابة وإنى لأبتغى ما تبغى النساء.... فأرسل إلى زوجها فجاء... فقال لكعب: اقض بينهما... قال: أمير المؤمنين أحق أن يقضى بينهما.. قال: عزمت عليك لتقضين بينهما فإنك فهمت من أمرهما ما لم أفهمه.... قال: إنى أرى كأنها عليها ثلاثة نسوة هى رابعتهم فأقضى له بثلاثة أيام بلياليهن يتعبد فيهن... ولها يوم وليلة فقال عمر: والله ما رأيك الأول أعجب إلى من الآخر... اذهب فأنت قاضٍ على البصرة....

 

- كذلك من ضمن الشروط... أن يكون القاضى شديدًا ولكنها الشدة فى غير عنف واللين من غير ضعف.... قال عمر: لا ينبغى أن يلى هذا الأمر إلا رجل فيه أربع خصال: «اللين فى غير ضعف، والشدة فى غير عنف، والإمساك فى غير بخل، والسماحة فى غير سرف» وقال: «لا يقيم أمر الله إلا رجل يتكلم بلسانه كلمة لا يُنقصُ غرْبُه، ولا يطمع فى الحق على حدته»... 

-  أن يكون ذا مال وحسب... فقد كتب عمر إلى بعض عماله لا تستقضين إلا ذا مال وذا حسب... فإن ذا المال لا يرغب فى أموال الناس.... وإن ذا الحسب لا يخشى العواقب بين الناس....

 

هكذا كانت بعض الشروط التى يضعها عمر «رضى الله عنه» فى اختيار القاضى... فكان يراعى الله فى كل شىء وهو يعرف أن مسألة القضاة من أخطر الأمور وأشدها حساسية.. 

خاصة وحديث النبى «صلى الله عليه وسلم» يرن فى أذنيه: «الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ، قَاضِيَانِ فِى النَّارِ، وَقَاضٍ فِى الْجَنَّةِ، قَاضٍ قَضَى بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ يَعْلَمُ فَذَاكَ فِى النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى وَهُوَ لا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَذَاكَ فِى النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِحَقٍّ فَذَاكَ فِى الْجَنَّةِ»... 

خاصة وأن الله فى قلبه أكبر من كل الصغائر ... 

خاصة وأن دستور الله أمام عينه.. قرآنه الكريم ملء سمعه وبصره..

فلا عجب فى ذلك أنه عمر .. الذى أقام دولته على العدل.. فإذا سألت على العدل فى بلاد المسلمين.. فقل إن العدل عمر !!!..

موضوعات متعلقة