الزمان
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

أخبار

لا نقول وداعًا.. د. حلمى القاعود أيقونة الأدب والنقد


د. يوسف نوفل: مؤلفاته المتنوعة جمعت بين الأصالة والعمق والثراء والمعاصرة والتراث
د. إبراهيم عوض: صدقه مع ذاته ودينه ووطنه حالا بينه وبين جوائز منحت لقامات ضئيلة
د. سعيد أبوضيف: ترك إرثًا علميًا وأدبيًا سيظل مصدر إلهام للأجيال المقبلة
د. محمود القيعى: أدبه يظهر احتفاء كبيرًا بالمكان، واهتمامًا باللغة واعتبارها قدس الأقداس
د. حسن على دبا: علامة فارقة فى الأدب والنقد الأدبى، لم ينل حقه من التكريم
حاتم سلامة: مَنْ يرد فهمًا ووعيًا حقيقيًا للواقع المعاش، عليه المرور على كتابات د. حلمي
د. وائل السيد: صاحب مدرسة متميزة فى الأدب العربى ترسخ منهجًا أصيلًا لدراسته
د. إبراهيم عطية: كان لديه القدرة على تحويل كل فكرة إلى وقائع وحوارات ووصف وعقدة
تحقيق: مصطفى على عمار
كان‭ ‬لمجلة‭ ‬‮«‬الاعتصام‮»‬‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬والدى‭ - ‬يرحمه‭ ‬الله‭ - ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬اقتنائها،‭ ‬فضل‭ ‬تعرفى‭ ‬على‭ ‬الصديق‭ ‬والمثقف‭ ‬الموسوعى‭ ‬د‭. ‬حلمى‭ ‬محمد‭ ‬القاعود،‭ ‬وقرأت‭ ‬له‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬وأنا‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية،‭ ‬شدتنى‭ ‬لغته‭ ‬الفصيحة‭ ‬وجرأته‭ ‬فى‭ ‬قول‭ ‬الحق،‭ ‬وحفزتنى‭ ‬مقالاته‭ ‬على‭ ‬الاتصال‭ ‬بصاحب‭ ‬المجلة‭ ‬ومؤسسها‭ ‬الشيخ‭ ‬أحمد‭ ‬عيسى‭ ‬عاشور‭ - ‬يرحمهما‭ ‬الله‭ ‬–‭ ‬وكان‭ ‬لقائى‭ ‬بالشيخ‭ ‬عاشور‭ ‬بداية‭ ‬عشقى‭ ‬للعمل‭ ‬بالصحافة‭.‬
وكرت‭ ‬الأيام‭ ‬ومرت‭ ‬السنوات،‭ ‬وتعرفت‭ ‬أثناء‭ ‬وجودى‭ ‬فى‭ ‬السعودية‭ ‬بالباحث‭ ‬السورى‭ ‬عبد‭ ‬القدوس‭ ‬أبو‭ ‬صالح‭ ‬رئيس‭ ‬رابطة‭ ‬الأدب‭ ‬الإسلامى‭ ‬العالمية‭ ‬ــ‭ ‬يرحمه‭ ‬الله‭ ‬ــ‭ ‬الذى‭ ‬قدمنى‭ ‬للدكتور‭ ‬حلمى،‭ ‬واكتشفنا‭ ‬أننا‭ ‬جارين‭ ‬يقيم‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬بشارع‭ ‬متفرع‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬الوزير‭ ‬بالرياض،‭ ‬فكثرت‭ ‬الزيارات‭ ‬وتعددت‭ ‬بخاصة‭ ‬بعدما‭ ‬تبينا‭ ‬تقاربنا‭ ‬الفكرى،‭ ‬لذا‭ ‬حين‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬لم‭ ‬تنقطع‭ ‬الصلة،‭ ‬برغم‭ ‬إقامتى‭ ‬بالقاهرة‭ ‬وإقامته‭ ‬بقريته‭ ‬بالبحيرة،‭ ‬فكنا‭ ‬نلتقى‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬بنقابة‭ ‬اتحاد‭ ‬كتاب‭ ‬مصر،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬نجله‭ ‬د‭. ‬محمود‭ ‬يطرق‭ ‬بابنا‭ ‬حاملا‭ ‬أحدث‭ ‬مؤلفات‭ ‬والده‭ ‬هدية‭ ‬لى،‭ ‬وتوطدت‭ ‬الصلة‭ ‬أكثر‭ ‬بإسهام‭ ‬د‭. ‬حلمى‭ ‬ببحوث‭ ‬فى‭ ‬كتب‭ ‬أشرفت‭ ‬على‭ ‬إعدادها،‭ ‬عن‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬وأمل‭ ‬دنقل،‭ ‬وشيخ‭ ‬النقاد‭ ‬د‭.‬عبد‭ ‬القادر‭ ‬القط،‭ ‬وشدنى‭ ‬أسلوبة‭ ‬البحثى،‭ ‬فبرغم‭ ‬أن‭ ‬اتجاهات‭ ‬الثلاثة‭ ‬تكاد‭ ‬تتباين‭ ‬مع‭ ‬اتجاهه‭ ‬الفكرى،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬قدم‭ ‬عنهم‭ ‬دراسات‭ ‬متوازنة‭ ‬وأعطى‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬حقه‭ ‬من‭ ‬التقدير،‭ ‬إذ‭ ‬نظر‭ ‬فى‭ ‬أعملهم‭ ‬بعين‭ ‬الناقد‭ ‬النزيه‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬والتعصب‭ ‬للرأى،‭ ‬لهذا‭ ‬حين‭ ‬أسست‭ ‬صفحة‭ ‬‮«‬سماء‭ ‬عربية‮»‬‭ ‬حرصت‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ضمن‭ ‬الكبار‭ ‬الذين‭ ‬نستعين‭ ‬بهم،‭ ‬فى‭ ‬التحقيقات‭ ‬الصحفية‭ ‬الصعبة،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬المسئولية‭.‬
أنا‭ ‬لن‭ ‬أقول‭ ‬شهادتى‭ ‬فى‭ ‬أعمال‭ ‬د‭. ‬حلمى‭ ‬سواء‭ ‬الإبداعية‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬وقصة‭ ‬وسيرة‭ ‬ذاتية،‭ ‬أو‭ ‬الفكرية‭ ‬والدينية‭ ‬التى‭ ‬تنافح‭ ‬من‭ ‬يهاجم‭ ‬الإسلام‭ ‬أو‭ ‬النقدية‭ ‬التى‭ ‬تتصدى‭ ‬لأدب‭ ‬الهالوك‭ ‬وتنتصر‭ ‬لأدب‭ ‬الورد،‭ ‬لن‭ ‬أقول‭ ‬شهادتى‭ ‬لأنى‭ ‬اشهدكم‭ ‬أنى‭ ‬أحبه‭ ‬فى‭ ‬الله،‭ ‬لذا‭ ‬شهادتى‭ ‬له‭ ‬قد‭ ‬يقال‭ ‬إنها‭ ‬مجروحة،‭ ‬وأدعكم‭ ‬مع‭ ‬الشهادات‭ ‬التالية‭ ‬التى‭ ‬تنصف‭ ‬مبدعًا‭ ‬لم‭ ‬ينصفه‭ ‬وطنه،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يأبه‭ ‬فالأهم‭ ‬عنده‭ ‬خدمة‭ ‬الوطن‭ ‬وناسه،‭ ‬وقد‭ ‬فعل‭ ‬بترك‭ ‬تراث‭ ‬ضخم‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬تستحق‭ ‬أن‭ ‬تقرأ،‭ ‬فأقرأوها‭ ‬فالقاعود‭ ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬جله‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يقرأ‭ ‬كله‭.‬
المحرر
ابتدرنا الأكاديمى والناقد الكبير د. يوسف نوفل بقوله: ماذا يمكن أن يقال فى هذه السطور القليلة، عن رحلة علمية ثقافية أدبية ثرية، امتدت منذ ستينيات القرن الماضى، رحلة قامت على أساس من الأصالة والعمق والثراء، جامعة بين المعاصرة والتراث.
يتنهد ويضيف: عرفت الراحل د. حلمى القاعود يرحمه الله، منذ ذلك التاريخ اليعيد عن كثب، ثم تابعته عن بعد فوجدت هذا الإخلاص فى قوله، وعمله بمثل ما وجدته فى إبداعه وآثاره.
ولا أنسى له - وأنا المتخصص فى أعمال محمد عبد الحليم عبد الله فى رسالتى لنيل درجة الدكتوراه، وأحسب أنى أول من تصدى لدراسة أعماله - لا أنسى له محاولته الجادة ان يكشف عن جديد فى عالم محمد عبد الحليم عبد الله، وقد زاد ذلك من احترامى وتقديرى له، وما ذلك إلا لأنه باحث دءوب جاد صادق مع نفسه، عاشق للمعرفة الأصيلة، ولهذا تنوعت مؤلفاته وتباينت مابين إبداع قصصى وروائى، ودراسات فكرية تدافع عن الإسلام والفكر الصحيح وتتصدى للإلحاد، وأخرى نقدية تتناول الإبداع وفنونه المختلفة، وقد ظل حتى آخر لحظات عمره حاملا قلمه مستمسكا به.
ويستعيد الأكاديمى والناقد الكبير د. إبراهبم عوض ذكريات جمعته بالدكتور حلمى القاعود، يقول سمعت به قبل أن أراه، فقد كنت أقرأ له فى بعض الصحف والمجلات، أواسط سبعينيات القرن الماضى، مقالات يتناول فيها النقد الأدبى أو الشأن السياسى، ويتصادف أحيانًا أن نكتب فى مجلة واحدة كمجلة "الثقافة" التى كان يرأس تحريرها د. عبد العزيز الدسوقى. وقد ذهبت لإعدد الدكتورية فى بريطانيا وعدت أواخر عام 1982م، ولم نكن قد التقينا ولا يعرف أحدنا الآخر. وأذكر أنى كنت أصلى الظهر فى جامع الكيخيا فى ميدان الأوبرا بالقاهرة ذات مرة، وبقى على العصر وقت غير طويل، فشرعت أقلب المجلات الموجودة فى مكتبة المسجد، فوقعت فى إحداها على سلسلة مقالات فى السياسة بقلم د. القاعود، وكان قلمه حادًا وانتقاداته لاهبة، فأكبرت شجاعته. ثم حدث أن تعارفنا ودعوته للاشتراك فى بعض البرامج الإذاعية الثقافية التى تناقش كتبا لى، ودعانى إلى مناقشة بعض الرسائل الجامعية فى جامعة طنطا، حيث يعمل أستاذًا للأدب والنقد. ولم أشعر أننا كنا غريبين كل منا تجاه الآخر، بل كأن ذلك التعارف هو امتداد معرفة بيننا قديمة. وهو من الكتاب المكثيرين ذوى الأسلوب القوى المتين، وله كتب ودراسات تتجاوز المائة بكثير جدًا فى الأدب والنقد والأدب المقارن والفكر الإسلامى والرحلات والترجمة الذاتية. ووثق العلاقة بيننا ابنه د. محمود حين وفد علينا فى آداب عين شمس، حاصلًا على مؤهل عال ودرس اللغة والأدب العربيين، وحصل على درجتى الماجستير والدكتوراه من قسم اللغة العربية وآدابها الذى أعمل به
وحين أقارن بين د. حلمى وبين كثيرين ممن يحصلون على جوائز علمية وثقافية، أضرب كفا بكف على هذا الوضع القبيح الشاذ، إذ لا يفكر أحد ممن لهم كلمة مسموعة فى تقديم أكبر جائزة فى العالم العربى له. لكن ماذا نقول، وهذه أحوال العالم الذى ننتسب إليه؟ هو أكبر من أية جائزة إذ يبدو أن الجوائز لم تعد تعطى إلا لذوى القامات الضئيلة.
ويرى الأكاديمى والناقد د. سعيد أحمد أبوضيف أن د.القاعود تميز بإنتاجه الغزير فى مجالات النقد الأدبى والفكر الإسلامى والسياسة، حيث أثرى المكتبة العربية بأكثر من 150 مؤلفًا، إلى جانب آلاف المقالات المنشورة فى صحف ومجلات مرموقة مثل: الأهرام، المساء، الوفد، الهلال، ووجهات نظر. وقد عُرف بأسلوبه النقدى الجريء، وكتاباته التى جمعت بين الأدب والفكر والدى، وكان علمًا من أعلام الفكر والأدب،.
يضيف: فى حوار له مع جريدة "عُمان"، عبّر الدكتور القاعود عن فلسفته فى الحياة والعلم بقوله: الحمد لله على نعمه. لقد أعطيت عمرى للكلمة، قارئًا وكاتبًا… لذة المعرفة تفوق أى لذة، وكما يقول الصوفية: «من ذاق عرف»… استغنيت عن العلاقات العامة التى تبدو ضرورة للتعريف بكتبي… فأنا بحمد الله زاهد، ولا أطمع فى شيء من عرض الحياة الزائلة."
والراحل الكبير ينتمى إلى المدرسة الفكرية الكلاسيكية، وهو امتداد لمدرسة مصطفى صادق الرافعى، التى أنجبت أعلامًا مثل سعيد العريان ومحمود شاكر، كما تأثر بمنهج سيد قطب فى النقد الأدبى، الذى يجمع بين المنهج الفنى والتاريخى واللغوى والنفسى، فضلًا عن انتمائه إلى مدرسة العقاد الفكرية.
وقد وصفه الدكتور خالد فهمى بأنه "قيمة أكاديمية ووطنية وإنسانية"، مشيرًا إلى إسهاماته فى تخريج أجيال من الباحثين فى مجالات الدراسات الأدبية والنقدية والإسلامية، واهتمامه المبكر بالقضايا الوطنية والقومية والإسلامية.
نال الدكتور القاعود عدة جوائز تقديرية، منها: جائزة المجمع اللغوى بالقاهرة (1968م)، جائزة المجلس الأعلى للثقافة بمناسبة "يوم الأرض" عن دراسته حول شعراء الأرض المحتلة (1974م)، جائزة نادى جازان الأدبى فى البحث الأدبى (1991م)، جائزة اتحاد كتّاب مصر فى التميز بالنقد الأدبى (2020م)
ويؤكد الكاتب الصحفى د.محمود القيعى أن د.حلمى القاعود أديب حقيقى، لكنه ضحية العمى النقدى والهوى الشخصي.
يضيف: صحيح أن البعض عرفه أستاذًا أكاديميًا، واعتبره آخرون ناقدًا لوذعيًا، إلا أن هناك وجهًا آخر له لا يعرفه سوى القليلين، وهو حلمى القاعود الروائى، الذى ضرب بسهم وافر فى عالم الق، إذ استوفى بمهارة عناصر القص من سرد شائق ووصف فائق للمكان والزمان والحوار والرؤية الفنية المتكاملة.
وإذا كان للمكان أهمية فى الأعمال الفنية عامة، فإن أهميته تكون أضعافًا مضاعفة فى الرواية خاصة، وقديمًا قال أبو العلاء:
أما المكان فثابت لا ينطوي.. لكن زمانك ذاهب لا يرجع
والناظر فى أعمال د.القاعود الأدبية، يلفت انتباهه احتفاء كبيرًا بالمكان: النيل "مكانه الأثير"، شجرة الجميز، القرية، إذ ظل النيل عند صاحب "الرواية المضادة" حاضرًا بقوة فى أعماله المبكرة، ولمَ لا وقد عاش عمره كله متناغمًا معه، ناظرًا إليه، فكتب عن"زمن البراءة: النيل بطعم الجوافة"، و" زمن الهزيمة: النيل لم يعد يجري" و" زمن الغربة: النيل لا طعم له".
واللغة عند د.القاعود هى قدس الأقداس.. لغة فصحى من النسق الأعلى.. لغة مهيبة سهلة فى آنٍ.. أجراها على ألسنة شخصياته فعبرت عن أشواقهم وأفراحهم تارة، وأحزانهم وهمومهم تارة أخرى.
حتى الحوارات التى يلجأ الروائيون إلى استخدام العامية فيها، يأبى القاعود إلا أن يجريها بالفصحى السهلة الطازجة، التى لا يجد أحد عناء فى فهمها، فأسدى بذلك الصنيع خدمة كبيرة للغة الضاد.
للدكتور حلمى نحو عشرين رواية، كل منها تمثل عالمًا غنيًا بالأفكار والمشاعر والرؤى، منها: شغفها حبا، محضر غش، شكوى مجهولة، شجرة الجميز، المجنون الجميل، مكر الليل والنهار.
فى روايته "مكر الليل والنهار"، يرصد القاعود بمهارة تغيرات المجتمع السلبية، التى لم تنج منها القرية، التى كانت يومًا ما رمزًا للنقاء والطهارة والسمو الأخلاقى، فيكشف بأسى بالغ وحزن عميق كيف انتقلنا من نهج البردة والنهر الخالد، إلى أغانى المخدرات والجنس.
لن يخسر د.القاعود شيئًا بإعراض النقاد عن موهبته، فالرجل قدم ما عنده بدأب ومحبة، وكانوا هم الخاسرين.
د ويرى الناقد د.حسن على دبا أن حلمى القاعود مثل علامة فارقة فى النقد الأدبى، إذ كان أستاذًا وناقدًا قديرًا لم ينل حقه من التكريم بعد! حيث وصفه الناقد الكبير الراحل "وديع فلسطين"، فى مجلة الثقافة التى كانت تصدر فى السبعينيات من القرن الماضى، بأنه أفضل النقاد الشبان.
يضيف: فى بداية الثمانينات كنت قد انتهيت من قراءة روايته:الحب يأتى مصادفة، من روايات الهلال، شدت انتباهى لقدرتها على صوغ أفكار جديدة تنتصر لذلك الجندى الذى يذهب لدار الأدباء ويبدو إنسانًا متوازنًا طبيعيًا يحب ويكره، دون أن يقع فى وهدات أخلاقية، أتبع ذلك يوم مشهود: إذ بينما أسير فى صالة التحرير، إذ بى أجد الكاتب يمر بتلك الصالة فى مبنى أخبار اليوم، الذى كنت أعمل فيه فى تلك الآونة، لأجد نفسى أمامه وجهًا لوجه، أدهشتنى بساطته، جلسنا واقتربنا وتزاورنا سواء فى مجلة "الاعتصام"، أو فيما تلاها من زياراتى لأبى المجد بريد الرحمانية أو فى الرياض، وكانت علاقة خالدة تزداد ولاتنقص.
لايمكننى أن أفصل تيار حلمى القاعود، عن محمود محمد شاكر فى التصدى للتيار التغريبى فى مجال الأدب والنقد، ولا عن مصطفى صادق الرافعى، ذلك التيار الذى ينتمى لأمته، معتزًا بأصالتها ومجدها الإسلامي.
ففى كتابه: "لويس عوض: الأسطورة والحقيقة التنوير"، وهو امتداد لجهد العلامة محمود شاكر "أباطيل وأسمار" يضع لويس عوض - بالدليل والبُرهان - فى حجمه الحقيقى، بعد أن يتناول جوانب الهالة الأسطورية التى أحاطته، بأسلوب علمى أكاديمى موضوعى، يعتمد على مقولات لويس عوض وكتاباته بالدرجة الأولى، وما كتبه من كتب نقدية وإبداعية، فيُظهر أن كتابات الرجل متهالكة علمية، ويسرق كتابات الآخرين.
يقول د.محمد عباس: إن الدكتور حلمى القاعود ليس مجرد ناقد، ولا حتى مجرد أعظم النقاد المعاصرين فى مصر، بل هو واحد من الأعمدة الرئيسة للتيار المتكامل من النقد الأدبى، يكمل ما بدأه الرافعى من اعتبار الدين محور الوجود الإنسانى، وغائيته التى ترفض كل وسيلة غير شريفة أو أدب لا يخدم فى النهاية رفعة ونبل الوجود الإنساني.
أبحث فى منهجه فأجده ممتلكًا - بقلم الناقد - موضوعية فى طرحه لأخطر القضايا النقدية، التى تتناول أعمالًا أدبية، ممارسًا لمنهجه التكاملى، غير متعصب لفئة كما فعل التيار التغريبى فى الأدب والنقد المعاصرين! ولعل كتابه الذى تناولته فى برنامج ثقافى عن الرواية التاريخية خير دليل، فلم يغفل روايات قد لايتفق مع منهجها الفكرى، لكنها تمثل إضافة فى تناوله لهذا النوع الأدبي.
فى دراسة له عن نجيب محفوظ، امتلك تعادلية عالية فى إظهار الجوانب الإيجابية فى أدبه، وانزعاج الصهيونية من القيم الإسلامية وإن لم يصرح بها مباشرة محفوظ، وأشار إلى تأثر محفوظ الأسلوبى بلغة القرآن الكريم، فيما انتقده فى عدم وفائه لصديقه وأول من اكتشفه من النقاد: سيد قطب.
ويسترجع الكاتب الصحفى حاتم سلامة ذكرياته، يقول: ما أزال أذكر حالى وأنا فى شرخ الشباب، حينما أشترى مجلة أو جريدة يكتب فيها د. حلمى القاعود، أذكر أن هيامى كان عظيمًا بالصحيفة، وأسارع لأنزوى فى ركن من الأركان، لأنفرد بمقالة القاعود لتكون أول ما أقرأ من الموضوعات المتنوعة، لقد كانت مقالاته تمثل جرعة دسمة من الحقيقة، المتدثرة بالحماس والصولة والصلابة، كان أسلوب الرجل فيه من القوة ما يعجبنى، ومن الجرأة ما يجعلنى أنتشي.
وأنا فوق هذا أعده علامة من علامات الدعوة إلى الإصلاح الإسلامى، وبطلًا من أبطال الهوية الدينية، والرجل بكتاباته الفكرية والأدبية العظيمة، كان أحد المناهل التى تربيت عليها واستقيت منها معارفى عبر مسيرتى التثقيفية، حيث رأينا فيها الوعى كاملًا بقضايا الأمة ومشكلاتها وطموحاتها، ناهيك عن الشعور الذى يلمسه القارئ خلال السطور، من غيرة الكاتب وجرأته فى المناورة والمواجهة لمخططات الخصوم.
أزعم أن من أراد الفهم والوعى للواقع المعايش، لا يمكن أن يتحقق له ذلك إلا بالمرور على كتابات د. حلمى، والتعرف على آرائه ونظريته وحلوله المقدمة لكل المشكلات.
الرجل قامة ثقافية كبرى، ومن أساتذة الفكر والنقد الأدبى البارعين، لكن المجال لا ينفسح أمامه، لأن هناك من يرفضون هويته الإسلامية واعتزازه الكبير بثقافته العربية، ورفضه لتيارات التغريب التى تريد هضم التراث الإسلامى وجوده وحقه، وقد كان غصة مرة فى حلوقهم.
د.القاعود ممن علمونا فقه المواجهة، فلم نره يومًا منشغلًا بتوافه الأمور وصغائر الموضوعات، التى تطرح أحياًنا بقصد الالهاء والتضليل والتعمية والخداع، وإنما كان دومًا فى طرحه كبيرًا وعظيمًا يعرف هدفه وغايته، ويصوب بقلمه وفكره العلل والمشكلات المباشرة التى تتفشى فى حياة الأمة.
لم يأخذ حقه اللائق به وهو من فرسان الأصالة الإسلامية، ويفوق بعلمه وقلمه كثيرًا من البغاث الذى يملأ حياتنا زيفًا وزورًا وبهتانًا، وهو من رموز الجيل العظيم، جيل المواجهة الذى شكل حائط الصد الإسلامى فى العقود الأخيرة، وكان يمكن له أن يهرول إلى الدنيا، وأن يسعى لمجده الشخصى، ويحقق مزيدًا من الجاه والسمعة والذكر، لكن تمسكه برسالته وقيمه كان أعز عليه من كل رفعة رخيصة، لأنه يعلم ان الرفعة الحقيقية أن يكون جنديًا من جنود الله، وليس عبدًا من عبيد الدنيا الفانية الرخيصة.
وللأجيال الحاضرة أقول: تعقبوا كتب القاعود لتتعلموا منها الوعى والحكمة والبصر والمعرفة، بل تعلموا منها ما يحيق بمستقبلكم وبأمتكم من أخطار ومؤامرات، نحن بحاجة شديدة إلى القراءة للقاعود.
ويؤكد الأكاديمى والناقد د. وائل على السيد إلى أن د. القاعود مدرسة متميزة فى دراسة الأدب العربى، أظهرت دراساته الأدبية للإبداع المعاصر مدى استيعابه للاتجاهات الأدبية المختلفة، كما أنه كان يعنى بتمييز الغث من السمين، والخببث من الطيب، ويظهر ذلك جليًا فى كتابه (الورد والهالوك) وهو دراسة فى شعر السبعينات، ميز فيه بين تيارين: أحدهما أصيل عميق راسخ وهو ما عبر عنه بالورد، وآخر هش ليس له من القيمة الفنية شيء ذو بال، يتسلق كى يصل ولكنه لم يحقق هدفًا نبيلًا ولم تميزه سمات راقية، وهو ما عبر عنه بالهالوك.
وفى كتابه (الرواية التاريخية فى الأدب العربى الحديث) قدم دراسات تطبيقية عميقة لنماذج من النصوص الروائية المتميزة لطائفة من الكتاب، منهم نجيب الكيلانى الذى توقف طويلًا عند توظيفه للتاريخ، ولا سيما فى روايته (عمر يظهر فى القدس).
ومما تتميز به دراساته الأدبية أنه صاحب منهج أصيل فى دراسة الأدب، نابع من قناعة تامة بأن الإبداع يجب أن يكون من منطلق حرص على إرساء دعائم قوية لفكر إسلامى معتدل.
ويقول الأديب د. إبراهيم عطية: كان – يرحمه الله - يرى "إن واقع الحياة يحفل بالشخصيات السوية والمنحرفة، الطيبة والشريرة، ومن غير الإنصاف، أن نزيّف الواقع، فلا نرى فيه إلا الشر والقبح والدمامة، وأن نصوّر الشخصيات الإسلامية تصويرًا يتسم بالمغالاة والبعد عن الواقع، فلا نرى المسلم إلا صاحب وجهين ومنافقًا وانتهازيًا وأفاقًا، وإذا كان بعض المعادين للإسلام يتسقون مع أنفسهم فى هذا الاتجاه، فإن المسلمين الذين يسايرونهم يضعون أنفسهم فى موقف الريبة والشك"، وكان لديه القدرة على تحويل كل فكرة أو موقف إلى وقائع وحوارات ووصف وعقدة.
لقد حدد منهجه النقدى فى الدراسات الأدبية، الذى ينتمى للأصالة والمعاصرة، من واقع عشقه، وولعه بالأدب العربى، منذ بداياته عام 1972م عندما نشر له أنور الجندى مقالة بمجلة "الاعتصام" بعنوان "مسلمون لا نخجل"، واتضح منهجه فى أول كتاب فى مجال الدراسات الأدبية نشره فى المجلس الأعلى للفنون له وهو "الغروب المستحيل"، عن الكاتب القصصى محمد عبد الحليم عبد الله بمقدمة ليوسف الشارونى، وامتاز أسلوبه النقدى بالبساطة والعمق وسبر أغوار الموضوعات، فى لغة بسيطة راقية، يستفيد منها الباحث المتخصص والقارئ العادي.
ثقافته سعت إلى تأسيس عصر عربى جديد لا ينفصل عن الماضى ولا يغفل المعاصرة، وهى ارتوت وتأصلت فى دار العلوم فكان موضوع الماجستير حول "مدرسة البيان فى النثر العربى الحديث"، ورسالة الدكتوراه فى البلاغة والنقد الأدبى والأدب المقارن بعنوان "محمد صلى الله عليه وسلم فى الشعر الحديث".
ومن منطلق هذه الرؤية قرر أن ينازل أدعياء الأدب والفكر ويقارعهم بالحجة، وخاض معهم العديد من المعارك، واضعًا نصب عينيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين سئل عن أشرف الجهاد: "كلمة حق عند سلطان جائر".
وترك مجموعة من من المؤلفات السردية فى القصة والرواية والسيرة الذاتية، وكتب فى الإسلام والسياسة والفكر، ترد كيد الكائدين للإسلام إلى نحورهم وكتب: القيم الخلقية وإعجاز القرآن فى رسائل النور عند النورسى، وجوه عربية وإسلامية، المآذن العالية: رجال من ذهب، مسلمون لا نخجل، حراس العقيدة، الحرب الصليبية العاشرة، العودة إلى الينابيع: فصول عن الحركة والفكرة، الصلح الأسود: رؤية إسلامية لمبادرة السادات والطريق إلى القدس، ثورة المساجد.. حجارة من سجيل، الأقصى فى مواجهة أفيال أبرهة، معركة الحجاب والصراع الحضارى، هتلر الشرق وبلطجى العراق ولص بغداد، جاهلية صدام وزلزال الخليج، أهل الفن وتجارة الغرائز، واسلمى يا مصر، العمامة والثقافة.. دفاع الإسلام وهجوم العلمانية، ثورة الورد والياسمين: من سيدى بوزيد إلى ضفاف النيل، اخلع إسلامك تعش آمنًا، عواصف الربيع العربى، الإسلام فى مواجهة الاستئصال، تحرير الإسلام، العصا الغليظة، وغيرها من الدراسات الدينية.
وفى سنواته الأخيرة عكف على القراءة والتعليق والضبط والترجمة للمهشمين من أعلام تراثنا الإسلامى، ملقيًا الضوء على إبداعات بعض الأدباء المعاصرين، الذين آثروا العزلة بعيدًا عن الصخب الزائف، مستكشفًا طبيعة إبداعاتهم وآرائهم وأفكارهم، مؤكدًا أن التجربة الإبداعية المخلصة سيستمر عطاؤها الثقافى، ومنوهًا بأهمية قراءة تراثنا، للكشف عما فيه من كنوز تستفيد منها الأجيال الناشئة فى تلمس طريقها نحو المستقبل.

click here click here click here nawy nawy nawy