رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

سماء عربية

الفرّديَّـةُ فى مقابلِ الأنمَاطِ

محمد جلال الأزهرى
محمد جلال الأزهرى

 كانَ منَ الرّائجِ فى خواتيم القرنِ الماضى أنْ ترى عيناكَ بحثًا هنا، أو دراسةً هناك عنِ الفرديّةِ  - عواملِ ومسبَّبَاتِ - بل ومظاهرِ الفردية لدى انسان العصر الحديث؛ فالكتاباتُ النوعيةُ عن الفردانيةِالحديثةِ، كانَ يمكن حينها أنْ تشتمَّ فيها رائحةَ الإقليمية، أو الارتباطِ بطبوغرافيةٍ ذاتَ طابعٍ خاصٍ، تفرض قيمةً ونتائجَ استثنائية، كما وَضَحَ ذلك فى فردية "جون ديوي" إبَّـانَ حديثهِ عن ملامحِ الفلسَفةِ الأمريكيةِ المعاصرةِ.

إلاَّ أنَّـه باتَ واضحًا الآنَ؛ مَدى نُزوعِ الإنسانِ فى كل سَقَّعٍ مِنْ أسقاعِ  الدنيا نحو عالمٍ أكثر فَردانيةٍ، وإلى مزيدٍ منَ التوحدِ، والنّزوعِ إلى كهفٍ إنسانى أكثرَ توحّشًا منْ أكهفِ أفلاطونَ.

إنَّ الإنسانَ منذ بزوغ فجره الأول فوق جنّتهِ الأرضيةِ، حيْنَ لاح له أنَّ فخ الهبوطِ موقفٌ متفجّرٌ يَستدعى كثيرًا من مواهبهِ الدفينَةِ؛ أقولُ إنَّه كان ولا يزال يسعى حثيثًا - تحت سِياطِ شمسِ التجربةِ، وبشيء منَ الصوابِ، وبكثيرٍ منَ الخطأ – إلى تأكيدِ وجوده الواحد، وكينونتهِ؛ عبرَ زحزحة الأرض عن مركزيةِ الوجودِ، وإعادةِ تنصيْبهِ مركزًا للحياةِ؛ هو بذاتهِ، واحدًا لا أكثر.

ففى عقابيل العصر الكوبرنيكى، هامَ الوجودُ الإنسانى الفردى بين اكتشافاتِ علوم الرياضياتِ والفيزياء، وبينَ بقايا دعاة السماويةِ، ومنْ علائمِ ذلك أنْ تأخرتِ العلومُ الإنسانيّةُ؛ والاجتماعيّةُ والنفسيّةُ زهاءَ قرنٍ منَ الزمانِ، فكانَ ذلك كله مسوغًا للإنسان؛ لأنْ يَرمى بنظره أسفلَ قدميه، مكتشفًا أنَّ كثيرًا منَ الحكمةِ تنتظره هنا قريبًا منْ ظِلّه، وليسَ بعيدًا فى أفلاكِ السّمَاءِ، فيأخذ بسهمٍ منَ البيولوجيا وغيرها منَ العلومِ المرتبطةِ به ككائنٍ ذى سيادةٍ على هذه الأرض!

      وتجدر الإشارة إلى أنَّ الفرديةَ كمصطلحٍ يعوزه كثيرٌ من الإعراب والتفسير، فالفردية كمصطلح علمى غامضٌ وعصى على الفهومِ، طرحه "لا لاند" فى موسوعتهِ كإشكالية سيميائية؛ فالفرديةُ عنده مُلغزةٌ، وجدليةٌ، ثمَّ إنَّـه أتبَعَ ذلك بالارتباكِ الحاصلِ فى التفريق بيْنَ الشخصيةِ، وبين الفرديةِأإلا إنَّـه لا ينفك يُشيْرُ ضمنيًا إلى التماهى بينهما (وهذا واضحٌ فى حقولِ علمِ النفسِ ودراساتهِ) كما لو كانَ بينهما عمومٌ وخصوصٌ!

ولقد تحمَّلتْ بعضُ المذاهبِ الفلسفيةِ على كاهلها عبء تنمية مفهوم الفردانية وتعزيز الشخصانية - دونَ وعى أو بوعى- فتحمَّلتِ «الليبرالية» و«الوجودية»، وكل التياراتِ اللاسلطوية مهمةَ الدفاع ضد ذوبان الفردية فى الكل الجمعى؛ ذلك الذوبان الذى أحدثته الآلة، والعملة فى العصر البخارى ؛ بالقرن الثامن عشر، وما تلاه، فى سبيلِ إقامةِ مجتمعٍ تجارى، تحكمه القيمةُ والمنفعةُ الفرديةُ، ولكنْ هل تجذَّرتْ تلك النزعةُ، وخفتَتْ كلُّ ملامح الجماعية تحت وطأة اللاثابت، فى عالمٍ يستميت أفراده منْ أجلِ حرياتهم المنهوبة، والتأكيدِ على مزيدٍ من الفرادةِ؟! أم أنَّ طبائعية العصر الجديد سوف تفرض قيمَ الاندماج والتوحّدِ؟!

لقائلِ أنْ يقولَ: إنَّ ما نراه من تشتَّتٍ فى النظريةِ، وفوضويةٍ فى تفكيكِ وإعادةِ بناء المفاهيم، وتلك النزاعات البشرية تحت راياتِ الدم المقدس، أو حتى تحت ألوية المال فى شتى بقاع الأرضِ، ربَّما كلُّ هذا هو هدوءٌ يسبِقُ عاصفةَالدمج، ومن ثمَّ يتبخَّر النفسى والمعنوى منَ الشخصيةِ الفرد؛ لتعود إلى سدة الوجود أمثال (الحكومة – المجتمع – الجماعة – المذهب – العقيدة– المشترك الحضارى-العولمة.. إلخ) .

منَ الواضحِ أنَّ التاريخَ البشرى يميلُ إلى نظمِ الحكمِ الشموليةِ والديكتاتورية، حين تتفشَّى الروحُ الفرديةُ، ومنْ ثمَّ تتغلَّب على عقيدةِ الجماعية، وأيدولوجيات التعميم، ونظرياتِ السّياقِ؛ ففى حين تتجلّى كبريات صور الفردانية فـى الانكفاءِ على الذّات والتطلع إليها، والنظر من/ وعبر محورها إلى أجزاء الوجودِ؛ وشيطنة المفردات الكلية، واستخراج الحقائق من مُعادلٍ لا موضوعى.. حين يحدث ذلك، فإنَّ الجماعات المغمورة داخل هذا النوع منَ الاستيطان المفاهيمى تَرْزَحُ تحتَ نَيْر الذات، والفردية الأحادية. وهذا له صورٌ عديدةٌ؛ منها الثقة بعقلية العالم النّحرير الذى يُميطُ اللثامَ عنْ إمكانياتِ العقل الفردى فى تَصنيْعِ التكنولوجيا القاتلة، وهذا بدوره أحدثَ رِدَّةً عِلمَويّةَّ عند جمهور الحروب الحديثة؛ كما فى الحربينِ العالميتين الأولى والثانية! فأعقبَ ذلك انجلاء وسُطوع فلسفات «ما بعد الحداثة» ومَدى التجاوز الواجب حدوثه لعرقلة السلطة الفرديةِ على المقدَّرَاتِ المنطقيةِ والمنهجيةِ للعقلِ البشرى الجمعي! ناهيكم عن إهمالِ العقلِ أو الثقة بجوهره.

إنَّ نظرةً فاحصةً لمُجرياتِ الأمورِ على صعيدِ العالمِ، وقراءةً متأنيةً تكفى الفُهَمَاءَ منْ أصحابِ النّظرِ والتحليل، لمعرفة ما الذى يمكن أنْ تؤول إليه الأمورُ، وأقولُ – زاعِمًا – إنَّ ما نراه منْ عدم إئتلاف سكان العالم حول قضايا مثل (الاحتباس الحرارى – نزع الأسلحة النووية – قضايا البيئةِ) لهو أحد مظاهر الرفض لنماذج الجَمْعَنَةِ؛ فى حين أنَّ الانتشارَ الواسعَ للعوالمِ الافتراضية (الميديا) – على سبيل المثال – أمرٌ يُعزز منْ طاقةِ الدّفعِ باتجاه الفردانية، وإعلاء صوت الفرد، منْ حيث تفتيت المستقر والثابت لمفاهيم الإعلام المسموع والمقروء والمرئى، وإعادةِ تدويره انطلاقًا منْ الإختلافات الفرديةِ وحب الظهور، وإظهار الموهبة الفردية، وأساليب الحوار مع الذات دون العكوف على تفهَّم الآخر؛ فهو عالمٌ يقوم بدور المرآة لا نرى فيه إلا أنفسنا ! مما يعززُ بلا شك مفاهيم الفردية التطبيقية – إنْ جازَ لنَا التعبيْرُ – ومثله تلك الطفرة التكنولوجية فى تطوير الأجهزة الإلكترونية الشخصية، ووضع الإعدادات والتطبيقات التى تناسب المستهلكَ، وتغازل وتُشبع غريزته، واهتماماته الفردية.