رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

مقالات الرأي

محو آثار الطغيان

   فى لقاء ثقافى فى طرابلس، لمناقشة الظواهر التى يعيشها المجتمع العربى، بعد ثورات ما يسمى الربيع العربى، دعيت لإبداء رأيى فيما يتصل بالجانب الثقافى، فتركز حديثى حول ما تميزت به عهود الاستبداد والطغيان التى سقطت تحت ضربات الثورة الشعبية، وهو محاربة الثقافة وضربها واستهدافها، تحريفًا وتجريفًا وتغييبًا للوعى، فمثل هذا الاستهداف، هو بالتأكيد أخطر ما يمكن أن يتعرض له أى مجتمع أو أى وطن، ولعله يعادل الإبادة والتطهير العرقى، وأن آثار مثل هذا التصحر الثقافى، لا يتم محوها بسرعة وإنما هى أبقى أثرًا من آثار الحروب التى تدمر الأبنية وتقتل جزءًا من الشعب، وقلت بناءً على ذلك، إن ما تعانيه شعوب المنطقة العربية من محن وويلات وظواهر مدمرة ومرعبة مثل التطرف الدينى بما فى ذلك شعبنا الليبى، أرى أن أسبابه كامنة فيما عاشته المنطقة، من تدمير للوعى، واستهداف للثقافة، ومحاربة لحرية الفكر، وهى حرب وتصحر وتحريف وتدمير وتجريف، لم يقتصر على عهد الاستعمار الإيطالى فى ليبيا، وإنما للأسف الشديد استمر على أيدى أنظمة شائهة مشوهة، حكمت بقوة الحديد والنار، وأعلنت حربها على العقل وعلى القوى الحية المستنيرة، فكانت النتيجة هذا الحصاد المر الذى نحصده اليوم فى بلادنا.

   وأشرنا إلى أكثر وجوهه بشاعة وهو الظاهرة الإرهابية التى تجسدت فى تغول هذه الجماعات الظلامية التكفيرية التى أظهرت من التوحش ما تخجل منه الوحوش المفترسة نفسها، وهى ظاهرة أطلت برأسها منذ أمد ليس قصيرًا، ولكنها ازدادت قوة ومددًا كنتيجة للممارسات القمعية لأنظمة الاستبداد العربى، فهى ليست إلا الوجه الآخر للقهر والكبت والطغيان، ومسخ العقل الإنسانى، الذى مارسته أجهزة القمع البوليسى لهذه الأنظمة وغرف التعذيب الوحشى، وغياب العدالة، فكان لابد لوحش الإرهاب أن يولد من رحم هذه الأنظمة.

   وللأسف إن هذا الإرهاب ليس إلا وجهًا واحدًا، لهذا الحصاد المر لتلك الأنظمة، أما الوجه الآخر فهو أكثر انتشارًا واتساعًا لأنه وصل بتشوهاته إلى نفوس الناس وترك فيها أثرًا لا يمحى، تمثل بعد غياب هذه الأنظمة فيما نراه من انهيار للقيم، وانتشار لمفاهيم التربح، وضمور الحس الوطنى، وتنامى الذاتية والأنانية، وتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة التى تهم الوطن كله.

  وهو إرث يحتاج إلى جهد كبير لإزالته والتعاطى معه، بأسلوب العلاج النفسى الذى يسمى إعادة تأهيل المجتمعات، وإعادة الاعتبار للعامل الثقافى، والارتفاع بدرجة الأداء فى التعليم على كل المستويات، بدءًا من المؤسسات التعليمية الأولوية التى تتعامل مع الطفل فى الروضة والمدرسة الابتدائية وصولًا إليه وقد أصبح شابًا فى الجامعة، ويمكن فى هذا المجال الاستفادة من شعوب أخرى، تعاملت مع حالات مماثلة كما حصل فى المجتمع الألمانى بعد هزيمة المشروع النازى، وتم وضع سياسات ومناهج تربوية واستراتيجية تعليمية وثقافية لإعادة تأهيل الشعب لمرحلة ما بعد الوباء النازى وتأثيراته فى النفوس.