رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

مقالات الرأي

كثير من الدين وقليل من الضمير


هذه هى المعضلة الحية فى بعض البلاد التى تعانى كثيرًا من المشاكل – رغم إمكانياتها وثرواتها – وتئن تحت وطأة حاجاتها التى تفرضها الأيام بتواليها، وتستلزمها ظروف الحياة، ومن الغريب حقًا أن تزداد وتيرة التواجد الدينى وأن يعلو صوت الدين – من خلال البرامج التليفزيونية والإذاعية والجرائد والمجلات والندوات وغيرها من وسائل الانتشار والتواصل – بينما تزداد أيضًا وتيرة الفساد والاستيلاء على المال العام، وتزداد ولا تتراجع وتيرة الواسطة ووتيرة المحسوبية، بينما تتراكم القوانين واللوائح فى أدراج المكاتب - أو ثلاجات المكاتب صدقًا للقول -  ولا تطبق إلا على من لا واسطة له ولا مصلحة خاصة فى يده للقائمين على تنفيذ تلك القوانين واللوائح.

وربما يظل الإنسان فى هذه المجتمعات محبطًا وأسيرًا للحزن والقنوط لأنه قد يصدم كل يوم فى عمله وفى حياته الخاصة، ولأنه قد يجد نفسه فى حالات كثيرة من الازدواج بين مسيرة الصح ومسيرة الخطأ، وبين مسيرة الضمير ومسيرة المحسوبية، وبين ما هو معلن للجميع وما قد يمارسه كثيرون فى غفلة من العلانية. وبينما يدرس الدين للناس فى تلك المجتمعات الطيبة، يختنق فيها الحق ولا يكاد يتنفس إلا بصعوبة، والناس يمزقون الطرق جيئة وذهابًا على دور العبادة.

 وإذا لم تكن فيها صاحب بطن – كما يقولون – فلابد لك أن تضرب على ظهرك، وأن ترى من هم دونك يتقدمونك، وفى هذه المجتمعات قد يعلق كل شيء بالدين، حتى لا يفرق المرء بين تقصيره وإهماله وبين التوفيق الإلهى، ويصبح الخطأ بلا صاحب ويصبح النجاح فى حاجة إلى تعويذة وحجاب من السادة السحرة والمشعوذين والعياذ بالله الذى لا يعلم الغيب إلا هو والذى لا إله إلا هو، فإعلانات السحرة والدجالين تملأ الدنيا ضجيجًا وبلا حياء، وبلا رادع فى بلاد الدين الذى لا يؤمن بالدجل وينهى الناس عنه وعن السعى إليه، والمرء يقلب كفيه على ما يجد ويحوقل ويحسبن، والله المغيث المستعان.

على النقيض مما تقدم من صورة قاتمة، قد نجد التقدم والحياة الآمنة المستقرة، والعيش الميسر للجميع، والمجتمع المتسامح الذى يتسع لجميع الأفكار وشتى الاتجاهات، والمستقبل المبشر للمتواجدين من مواطنين ووافدين فى بلاد أخرى لا يتواجد فيها الدين إلا خلف أسوار بيوت العبادة فقط تقريبًا، ولا وجود لرجال الدين فيها فى كل جريدة وكل محطة إذاعة وكل محطة تليفزيون، ولا وجود فيها لبرامج الدين وبرامج الفتوة الدينية التى تهطل كالمطر على رءوس الناس ليلًا ونهارًا من ذوى العلم ومن غيرهم، ولا إنفاق فى تلك الدول للثروات الطائلة على رحلات الحج وعلى رحلات العمرة كما يحدث فى بعض البلاد، ولا وجود فى تلك المجتمعات التى يتطلع إليها الناس لوكلاء الإقراض من أجل الحج ومن أجل العمرة، وإنما يحج الناس ويعتمرون مرة  حين يتيسر لهم ذلك، ولا يحجون كل عام ويؤدون العمرة كل عام، بينما يمكن لأموالهم الزائدة أن تساعد كثيرين وأن تسهم فى دعم اقتصاد بلادهم.

ولا يخل هذا التواجد الإعلامى المحصور للدين فى تلك المجتمعات بالاحترام الواجب للأديان ولمن يدينون بها، والاحترام للجميع، ولتوجهات الجميع فى حياته الخاصة التى لا إجبار لأحد فيها على ما لا يحب، ولا يظل فرضاً أولًا إلا احترام النظام العام والعمل والإنتاج والابتكار والصدق والأمانة وتقبل الآخرين وحب الوطن وحمايته، والعمل فى هذه المجتمعات هو عملك، والنجاح فى هذه المجتمعات هو نجاحك، والفشل فى هذه المجتمعات هو فشلك، والإهمال فى هذه المجتمعات هو إهمالك وليس إهمال القوى الخفية وليس مسألة حظ، فى هذه المجتمعات تسير الأمور بحساب وبمقدار، ويعمل الإنسان للغد حسابًا، ولا يترك الغد لظروف الغد عاريًا من الاستعداد ومن الترتيب اللازم الذى يحض عليه العقل والمنطق وكل دين قويم، ورغم ما قد يعترى تلك المجتمعات من مثالب وما قد تصيبه تلك المجتمعات من سلبيات ونواقص، إلا أنها تتقدم إلى الأمام، ويتقدم فيها الإنسان، ويتقدم فيها الإيمان إلى قلوب كثيرة متزايدة يكسوها النور خضارًا ويملؤها التقدم يقينًا بوحدانية الله وبفضله على خلقه أجمعين.

صورتان متناقضتان تمامًا تقريبًا، ومع تقديرنا للجميع، يظل السؤال الهام قائمًا: لماذا لم يفلح التواجد الدينى المكثف فى شتى ربوع بعض المجتمعات والطاغى فى بعض المجتمعات الأخرى بكافة وسائل الاتصال والإعلام فى تربية الضمير اليقظ الحارس على الفرد وعلى العائلة وعلى الدولة؟! ولماذا يظهر الضمير الدينى والضمير الإنسانى والضمير المهنى فى مجتمعات تؤمن بالأدوار المقننة لكل فرد ولكل شيء، وللأديان أيضًا؟ لماذا ترى الضمائر واضحة فى مجتمعات تضع القيود والمحاذير على محاولات التمدد والسيطرة الدينية فى المجتمع، بينما تكاد الضمائر تختفى فى مجتمعات يعلو صوت الدين فيها فى كل ركن؟

إن للإنسان اختياره ولا شك فى ذلك، فالعقل والاختيار هما ميزتا الإنسان على سائر خلق الله، ولابد للاختيار أن يكون عن وعى وإدراك تامين، فهل يسكت الإنسان ضميره أو يصيبه بإغماء لا إرادى، إذا ما أحس بفقدان الحق فى الاختيار؟! وما هو الحل لتستيقظ الضمائر ويتراجع النفاق والأنانية والكذب، حتى ولو غابت الرقابة على الإنسان؟! حفظ الله مصر ورئيسها ووفقه وقادتها إلى الخير.