رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

سماء عربية

مظاهر تسامح الحضارة الإسلامية فى الأندلس (5)

من مخاطباته فى قضاء حاجات الإخوان ما كتب به إلى ابن عمار يوصيه بابن الحداد "المحاسن التى تؤثر عنك بالسرو والسناء، والمحامد التى تتلاقى عليك بها أسنة الثناء، تميل إليك أحناء القلوب، وتقف عليك نخائل الصدور، وقد أصبحت بفضل الله حلية الزمان، ومفخرة الأوان، ومسمى عيون الأفاضل والأعيان، بمانزعت به من كرم الخلائق، وسمو الهمم السوابق ...."، ويستمر فى تمجيد مخاطبه، داعيًا له، مشيًدا بأفضاله ومساعداته لكل من يلجأ إليه، قبل أن يقدم له شخصية ابن الحداد، ويوصيه به ذاكرًا صداقته وحسن معاشرته "وحسبك به جملة تغنى عن التفصيل، مع عالى نظرك الجليل، أنى ما عاشرت أكبر منه فى البر والصلة، ولا أقوم بحقيقة الود والخلة، ولاناسمت أطيب منه نفسًا، ولا أمتع أنسًا، نفاسة خيم، صادرة عن شرف أرومة، وأنت خليق بالاستكثار من جانبه، والإجمال فى معونة طلبه"(1).

      وأما مراسلاته الشعرية فنقف على واحدة منها، يغلب عليها طابع الفكاهة والدعابة أكثر مما يغلب عليها طابع الجد، فهذا الشاعر يحيى بن الجزار السرقسطى برع فى قول الشعر وصدرت عنه مدائح كثيرة فى بنى هود ووزرائهم، ثم تخلى عن قول الشعر، واتجه إلى الجزارة، فأوعز ابن هود إلى وزيره ابن حسداى أن يوبخه على ذلك، فبعث إليه بأشعار منها:

          تركت الشعر من ضعف الإصابة                وعدت إلى الدناءة والقصابة

فلما وصلت هذه الرسالة الشعرية إلى الجزار السرقسطى أجابه بأبيات دافع فيها عن مهنته دفاعًا مفحمًا، مبينًا أسباب تركه للشعر، يقول الشاعر:(2)

  أبا الفضل الوزير أجــب نــدائى                     وفضلك ضــامن عنـك الإجــابة

 وإصغاء إلى شكــوى شــكـــور                        أطلت على صـنـاعته عـتـابــــــه

 وحقك مـا تركت الشــعر حتى                        رأيت البــخل قد أوصى صحابه

 وحتــى زرت مشتــاقـا حبيـبى                           فــأبدى لى التــحيل والــكآبــه

 وظن زيـــارتى لطـــلاب شىء                          فنــافـرنى وغــلظ لى حــجـابــه

         

          وإذا لم نستطع الوقوف على شعر ابن حسداى لأن المصادر لم تورده، فإنا على العكس من ذلك نستطيع قراءة دفاع السرقسطى عن مهنته، إذ أوردتها المصادر متنوعة بين الطول والقصر بين مصدر وآخر، وربما عنيت بها المصادر لطرافتها:

 

 

                        تعــيـب عـلـى مألوف القصابة                       ومن لم يـــدر قــدر الشىء عابه

                   ولو أحــكمت منهـا بعض فن                      لـما اسـتبدلـت منها بالـحـجـامة

                   ولوتدرى بـهـا كـلفى ووجـدى                         عـلمت عـلام أحـتمـل الصـبابـة

                   وإنــك لـو طلـعت على يــوما                       وحولى من بــنى كلبـ عـصـابة

                   لـها لـك ما رأيــت وقـلت هذا                        هــزبر صــيـر الأوضـام غابــــه

                   وكـم شهـدت لـنا كلـب وهــر                 بـأن الــمجد قـد حــزنا لـبابـــه

                   فـتكـنا فى بنـى العـنزى فــتكـــا              أقــر الذعــر فيهم والـمـهـابـــه

                   ولــم نقــلع عـن الثورى حـــتى              مــزجـنا بالــدم القــانــى لعــابه

                   ويــبرز واحـد مـنا لألــــــف                 فـيــغلـبهم وذاك مــن الغـــرابة (3)

أما علاقة الشاعر بالممدوح فسنقف على نموذجين من الشعراء هما ابن ميمون الأخفش والمنفتل، اختصا بمدح ابن النغريلة اليهودى، وهذا الاسم عُرف به اثنان هما الأب والإبن، أما الأب فهو إسماعيل بن يوسف اتفقت المصادر على الإشادة به، قال عنه ابن بسام الشنترينى: "كان رجلًا من عامة اليهود، حسن السيرة فيهم، ميمون النقيبة عندهم، تولى لباديس ولأبيه قبله حبوس بغرناطة جباية المال، و‎‎‎‎‎‎‎تدبير أكثر الأعمال "(4).

 ووصفه المنفتل فى مدحه له فقال: "فتى كرم خالًا وعمًا، وشرح من المجد ما كان معمى، قسًا فصاحة، وكعبًا سماحة، ولقمان علمًا، والأحنف حلمًا، أكرم همة من همام، وأعظم بسطة من بسطام، إن خاطب أوجز أو غالب أعجز، أو جاد أجاد، أو وعد أعاد، يأمر ويمير، ويأجر ويجير، مأوى السماح والضيف، ورحلة الشتاء والصيف، حامى الذمار، بعيد المضمار، لا يظلم نقيرًا ولا يخيب فقيرًا، يحافظ على صلاته حفظه لصلاته، ويحن إلى البذل حنين الغريب إلى الأهل."(5)، وفيه قال ابن السقاء مدبر (6) قرطبة "لابأس به لولا أنه نسى اليهودية "، وهذا الرجل هو ممدوح ابن ميمون والمنفتل.

          أما الثانى فهو يوسف بن إسماعيل بن النغريلة، تولى الوزارة بعد أبيه، إلا أنه لم يحسن التصرف، وتطاول على المقدسات، وطعن فى الملل والأديان، وأدعى قدرته على نظم القرآن شعرًا، ثم تورط فى مؤامرات ودسائس ضد مخدوميه فانتهى أمره بالقتل.

 

 

 

1) المصدر نفسه ص467

2) النفح ج4 ص152 .

3) الأبيات ورد بعضها فى نفح الطيب ج4 ص152 ،وبعضها فى زاد المسافر ومحيا الأدب السافر لأبى بحر صفوان التجيبى ص140 .

4 ) الذخيرة ق1 م2 ص766 .

5) نفس المصدر ص762 .

6) النفح 3 ص387