رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

سماء عربية

الحُلم القديم

سكرة غامرة اعترتنى عندما شاهدتها أول مرة، كأنه الحُلم القديم الذى تراءى لى مذ كنت طفلًا، أذكر أنى استيقظت قبيل الفجر منذ سنوات بعيدة مضين، قصصت رؤياى على جدتى، رأيتنى مع فتاة جميلة أقبلت نحوى تصافحنى، ما لفت انتباهى هو أنها كانت تتوسل لى دامعة العينين، تدعونى لشىء لم أستطع فهم كنهه، حتمًا كانت تعانى من مشكلة ما.. ابتسمت جدتى وضمتنى إلى صدرها، دفنت وجهى فى الشال الأسود العتيق الذى تلفه حول رأسها، وقالت بنبرة يائسة: إذا عشت حتى يوم زفافك لن تتركنى.. ستقيم معى هنا! لم أفهم وقتها ما كانت ترمى إليه، رحلت جدتى بعدها ببضعة أسابيع وافتقدتها، سألت عنها كثيرًا، قالوا لى "إنها تشترى لى حاجات حلوة وسوف تعود!"، وكنت أصدق ما يقولون !


فى أواخر تسعينيات القرن العشرين كنتُ أول من اشترى الهاتف المحمول فى قريتى، ليس على سبيل الترفيه، إنما أصرت أمى على أن يكون معى وسيلة تطمئن بها على فى أثناء وجودى بالعريش، كونى أدرس بكلية الزراعة التى تبعد عن قريتنا نحو سبع ساعات بالسيارة، شغلت منصب رئيس اتحاد الطلاب طوال الأربع سنوات، وهذا أعطانى خبرة كبيرة، وجعلنى صديقًا لجميع الأساتذة، فى السنة الرابعة لى بالكلية، ذهبت عقب بدء الدراسة بأسبوعين، انشغلت بتجربة قراءة كتب الصوفية، وأذهلنى أهل الجذب والصحو والكرامات، شعرت بزهد شديد فى الدنيا.. فلماذا الدراسة والتعب وفى النهاية سنموت؟! أعجبتنى فكرة المريد ومراحله فبالزهد والورع ينتقل إلى مرتبة الأبدال ثم إلى النجباء ثم إلى النقباء، ثم إلى الأبرار ثم إلى الأوتاد.. ثم إلى الأقطاب، فيصبح العارف بالله، ويرى ما لا نرى! سرعان ما ذهبت الصوفية من رأسى، ودخلت فيما يُشبه الاكتئاب، أحببت العزلة، حتى زميلتى بالدراسة التى كنت أنوى الزواج منها لا أريد أن أعرف عنها شيئًا.. فى ذلك اليوم الأول من أكتوبر.. حزمت حقائبى، وقصدت العريش، دلفت إلى السيارة البيجو المتهالكة، التى تثير امتعاضى، فقد ارتبطت فى ذهنى بنقل جثث الموتى، بجوارى سائق تبدو عليه علامات الحماقة، يدخن بشراهة، أفتح زجاج النافذة التى بجوارى، لأستنشق بعض الهواء النقى، فيحتج بزعم أن الهواء يؤذيه! وأخبرنى أن النافذة التى بجواره هى المصدر الرئيسى للهواء! فى تلك الأثناء كانت زميلتى ترسل لى على الموبايل ما جرى بالكلية، وكيف أنها تشتاق لرؤيتى!


وصلنا إلى الإسماعيلية، رانت ظلمة رمادية شفيفة، وتلبدت السماء بالغيوم، وتلاشت الشمس خلف السحب الكثيفة، توقف السائق، للاستراحة ونزلنا.. شعرت بأن قدمى أصيبتا بالشلل بسبب الانحناءة داخل هذه السيارة اللعينة!

اشتريت زجاجة مياه، ووقفت بجوار السيارة حتى يفرغ السائق ونعاود الركوب، من بعيد لمحتها تهرول نحوى، من بريق عينيها استدعت ذاكرتى الحُلم القديم، كانت كما فى الحلم.. صوتها المتهدج يرجونى أن أساعدها.. قالت بحزن دفين: هل ستذهب إلى العريش؟ أجبت: نعم.. أردفت: أستسمحك أن ترسل هذا الدواء إلى هذا العنوان وهذا رقمى كلمنى عندما تسلمه، وأعطتنى حقيبة بها العديد من الأدوية والحقن وبعض الفاكهة، لاحظت استغرابى، أطرقت للحظات ثم قالت وهى تغالب دموعها: أخى مريض بالسرطان، وهذه أدوية كيمائية، ولابد أن تذهب له، وأنا خلال يومين سأكون عنده .


شعرتُ بانقباض شديد، دهمنى الموقف، ذهول يلفنى، أهذا هو الحلم؟! هى نفسها التى رأيتها منذ سنوات بعيدة فى المنام.. وهى نفس النظرات.. رددت بأسلوب لبق: شفى الله أخاكِ.. سأذهب إليه، واتصل بكم.. قالت عبارات كثيرة.. لم آبه بها.. كنتُ أُحدق فى عينيها! انصرفت هى، بينما ركبتُ السيارة وأنا فى غاية الدهشة، انطلقنا حتى وصلنا إلى العريش.. السكون يعم المكان، كأنى وسط عالم من الأموات.. الشوارع مظلمة وكئيبة، على الفور يمّمت شطرى إلى العنوان، جففت العرق البارد الذى كان يتصبب من وجهى، وبيدى التى أصابتها رعشة أخذت أدق الباب، استقبلتنى فتاة صغيرة، سألتها: أين والدك؟ قالت: مات! ظننت الفتاة تمزح.. خرجت والدتها المتشحة بالسواد وأخذها النشيج.. وقالت بحشرجة إن زوجها مات منذ دقائق! لحظتها قلت أن هذا حلم وسأستيقظ منه! ما هذه الغرائب التى تحدث لى فى يوم واحد؟! عدت إلى سكنى.. ولا أدرى ماذا أفعل.. وقلت بينى وبين نفسى لن أتصل بشقيقته إلا فى الغد.. لا أجرؤ على إبلاغها هكذا خبر.. اتصلت فى اليوم التالى، كانت تبكى بكاء مريرًا.. دعوتُ له كثيرا بالرحمة.. وناشدتها الصبر، فالصابرون يدخلون الجنة بغير حساب، وقبل أن أنهى المكالمة.. سألتها ماذا أفعل بالأدوية؟ فردت بانزعاج وألم ووهن: هل هذا وقت مناسب لتحدثنى فيه عن الأدوية؟! اعتذرت منها.. وبعد أيام عاودت الاتصال.. لكنها لم ترد.. الفاكهة أُصيب بالتلف.. وضعتها فى صندوق القمامة، وقصدت الصيدلية القابعة فى وسط المدينة.. طلبت من الصيدلى سعر الأدوية، أذكر أنها تجاوزت الألف جنيه، عرض على شرائها.. رفضت بشدة لأنى لا أملك حق التصرف فيها.. رجعت إلى السكن تدور فى رأسى الأفكار استلقيت على السرير مُثقلا بالهموم.. رحتُ فى شىء يُشبه النوم ولكنه ليس النوم! رأيت الفتاة تقف بجوار جدتى، مالت نحوى وهى تبتسم وقالت لماذا لم تتصل؟! عقدت الدهشة لسانى.. لم أرد.. قمت من السرير مذعورًا، وطلبت رقمها، جاءنى صوت أجش غليظ: ماتت.. الله يرحمها !