رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

سماء عربية

وداعًا عاشق التراث

 رحلة شاعرنا الراحل فاروق محمد شوشة المولود فى 17 فبراير 1936، بقرية الشعراء فى محافظة دمياط، مع لغة الضاد بدأت بحفظه القرآن الكريم فى كتّاب القرية، وحين أتم دراسته الثانوية، أراد الالتحاق بكلية الآداب جامعة القاهرة ثم آثر الالتحاق بكلية دار العلوم، بعما قرأ قول الإمام المجدد محمد عبده: "تموت العربية فى كل مكان وتحيا فى دار العلوم".

 

وفى دار العلوم تلقى العلم على كوكبة من الأعلام منهم: عمر الدسوقى، وأحمد الحوفى، على الجندى الشاعر، وعبد الحكيم بلبع، ومحمود قاسم، ومحمد غنيمى هلال، وبدوى طبانة، وأحمد شلبى، وتمام حسان، وإبراهيم مصطفى، وإبراهيم أنيس وغيرهم.. وتخرج فيها عام 1956، وكان من دفعته عبدالصبور شاهين، ورمضان عبدالتواب، وعبدالعظيم الديب وقد تفوق كل منهم فى مجاله وبلغت شهرته الآفاق، ثم حصل على دبلوم التربية من كلية التربية جامعة عين شمس 1957، وعمل مدرسًا عام 1957 وترك التدريس ليلتحق بالإذاعة فى العام التالى، وصاهر رئيسها عبدالحميد الحديدى وتزوج ابنته المذيعة هالة الحديدى، التى اشتهرت ببرنامج "ألحان زمان"، وتدرج فى وظائف الإذاعة حتى ترأسها سنة 1994.

 

وخلال رحلته مع الإذاعة والتليفزيون أعد وقدم عددًا من البرامج المتميرة منها: "لغتنا الجميلة" منذ عام 1967، والتلفزيونية: "أمسية ثقافية" منذ عام 1977، قدم خلالهما نماذج وأشعارًا وأدبيات فنية الطرح ومفيدة للثقافة وأعلامها متناولًا شجونًا من الشعر ونماذج من الأدب، بروح حيوية وإلقاء عذب جميل، يذكرنا بالشاعرين العظيمين أحمد شوقى، وحافظ إبراهيم اللذين كان أحدهما أجود إلقاء من صاحبه وأحدهما أشعر من الآخر.

 

وامتدت نشاطات شوشة الأخرى ليشارك فى الحياة الأدبية شاعرًا وناقدًا ويتكشف وجوهًا كثيرة من أعلام الشعر المعاصر، من خلال انكباب واعٍ على التراث العربى يغوص فى أسراره ونفائسه، ليستخرج منه الدرر ويعيد صياغته بأسلوبه.

 

 إلى جانب ذلك عمل الشاعر فاروق شوشة أستاذًا للأدب العربى بالجامعة الأميركية بالقاهرة، وعين عضوًا فى مجمع اللغة العربية فى مصر، ورئيسًا للجنتى النصوص بالإذاعة والتلفزيون، وعضو لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، ورئيس لجنة المؤلفين والملحنين، وشارك فى مهرجانات الشعر العربية والدولية.

 

 أثرى شوشة المكتبة العربية بمؤلفات عديدة، تنوعت بين الإبداع الشعرى والمسرحى وكتابة المقالات النقدية، تناول فيها شعراء من كل العصور، وقدم من خلالها العديد من الشعراء الجدد، والدواوين الشعرية منها "إلى مسافرة"، و"العيون المحترقة" وغيرها.

 

 وفى أثناء البحث فى كنوز لغتنا الجميلة توقف فاروق شوشة أمام كثير من النصوص الفاتنة لعديد من شعراء الحب العرب الذين رزقوا الإلهام، وصدق العاطفة والشعور، وجمال التعبير والتصوير والأداء، وتتمة للفائدة اختار عشرينًا من هؤلاء الشعراء يمثلون العصور الأدبية، جامعًا بينهم فى صعيد واحد، يبوح بأجمل ما أهداه للإنسانية من قصائد، جمع بين المنخل اليشكرى، والذى اتهمه النعمان بن المنذر بامرأته المتجردة، وكانت بارعة الجمال فأغرقه أو دفنه حيًّا، حتى ضُرب به المثل لمن هلك ولم يعرف له خبر، وكانت "فتاة الخدر" هى قصيدته الشهيرة التى قالها فى زوجة النعمان، وينتقل بنا إلى فتى قريش المدلل عمر بن أبى ربيعة فى واحدة من أشهر قصائده والتى قالها فى محبوبته "نعم"، ومجنون ليلى قيس بن الملوح أشهر العاشقين وأحد أعلام الحب العذرى، والذى ضرب به المثل للعشق الصادق الذى صرع صاحبه، وجميل بثينة، ومجنون لبنى قيس ذريح، وكثير عزة، ويزيد بن معاوية، والعباس بن الأحنف، وابن الرومى، وأبى فراس الحمدانى، والشريف الرضى، ودوقلة المنبجى، وابن رزيق البغدادى، وصفى الدين الحلى، وابن زيدون، والحصرى القيروانى، وقصيدته "يا ليل الصب متى غده؟"، وهى إحدى القصائد الشهيرة له، وهى قصيدة من عيون الشعر العربى ذاعت شهرتها فى أندية الأدب ومجالس الغناء وتناقلتها الناس، وعارضها الشعراء، ويتناول فيها الشاعر باسلوبه المرهف ولغته الرقيقة شتى ما يدور عادة على لسان المحبين ويفضح أسرار نجواهم ومكنون قلوبهم، وأبى القاسم الشابى وقصيدته "صلوات فى هيكل الحب"، التى جذبت الأنظار لها عند نشرها فى مجلة "أبولو" بالقاهرة، وذلك نظرًا للغة الشعرية الجديدة، والتناول الجديد لتجربة الحب فى الشعر العربى الحديث، وذلك فى إطار من الخيال والصور الشعرية الأخاذة الفاتنة، والتى رسم فيها الشابى حبيبته كائنًا سماويًا يفيض رقة وطهرًا وشفافية، وعلى محمود طه وإبراهيم ناجى، ومحمود حسن إسماعيل.

 

قال شوشة عنها "أنها وجوه تضيف لتجربة الحب فى الشعر العربى ألوانًا وتنويعات ومذاقات مختلفة، تثريها وتعمقها، وتكشف عن جوهر الإنسان العربى والشاعر العربى فى نظرته للحياة والوجود من خلال المرأة"، وكان متأثرًا بالمجموعات الشعرية القديمة مثل المفضليات للضبى، والأصمعيات لأبى سعيد الأصمعى، وجمهرة أشعار العرب لأبى زيد القرشى، ومختارات شعراء العرب لابن الشجرى.

 

 وقد كرر شوشة هذه التجربة فى كتاب آخر بعنوان "أحلى عشرين قصيدة فى الحب الإلهى" فى هذه الحلقة تقدم إلى ساحة أسمى من ساحات هذا الحب هى ساحة الحب الإلهى، إذ فاضت وجدانات العشاق الكبار من الشعراء بأنغام وترانيم وألحان تطهروا بها، وحلقوا من خلالها، دنوًا واستشرافًا من الأفق الأعلى والأسمى، حيث ينابيع الروحانية، والفيض الغامر، وحيث تمتلئ النفوس بأقباس من النورانية وتفيض العيون بدموع الندم والخشية والتوبة، وتعمر القلوب بوشائج المحبة الدائمة، ومقامات العشق وأحواله، وينسكب هذا كله فى النهاية شعرًا يفيض بالصدق ويعمر باليقين والمحبة والإيمان، واختار عشرين قصيدة لعشرين شاعر بداية من الإمام الشافعى وقصيدته "تعاظمنى ذنبى" مرورًا بابن الفارض وقصيدته "ته دلالا فأنت أهل لذاك"، وابن العربى وقصيدة "مرضية الأجفان"، وصولًا إلى العصر الحديث حيث قصيدة محمود حسن إسماعيل "موسيقى من الله"، وطاهر أبوفاشا "على باب الرجاء".

 

  وخلال هذه الرحلة الطويلة فى مجال الثقافة والإعلام والشعر نال العديد من التكريمات فى مصر وخارجها.. فحصل على جائزة الدولة فى الشعر 1986، وجائزة محمد حسن الفقى 1994، وعلى جائزة الدولة التقديرية فى الآداب 1997، وحصل على هذا العام على جائزة النيل وهى أرفع جائزة فى مصر.

 

هذا قليل من سيرة هذا العملاق الذى لا توفيه هذه السطور حقه من التكريم.