رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

سماء عربية

«لوحة مترنيخ» وأسطورة حورس والعقرب

كانت أسطورة ”إيزيس وأوزوريس” من أحب القصص إلى قلوب المصرىين، بل امتد تأثيرها إلى بلاد الإغريق ثم الرومان وانتشرت فى أوروبا أيضًا، ومن يقرأ ملحمة الإنيادة لفرجيل والتى تصف رحلة إينياس من طروادة إلى إيطاليا، يجده مثل أوزوريس محبوبًا ويعتبر أبًا لكل الإيطاليين، أيضًا فى الإلياذة لهوميروس يلاحظ التشابه الشديد فى صراع الآلهة، بين كل من ديانا إلهة الصيد والقنص ومنيرفا إلهة الحكمة وفينوس إلهة الجمال، والتى نشبت بسبب وقيعة إلهة السحر ميدوزا، وفى الأوديسا يصف هوميروس بينيلوبى زوجة ”أوديسيوس” بنفس أوصاف ”إيزيس”، فهى الشريفة التى حافظت على شرف زوجها رغم غيابه الذى طال كما فعلت إيزيس، وصدت كل محاولات إغوائها من منافسى زوجها حتى عاد إليها منتصرًا... كانت ”إيزيس” إذًا معبودة مهمة لأنها أعطت المثل فى التضحية والبذل والحب، ووقفت وحيدة لتدافع عن حب عمرها، وعملت على إعداد ابنها ليثأر لمقتل والده على يد أخيه الشرير ”ست”.

 

وصراع ”حورس” مع ”العقرب” مثل أسطورة تناقلتها الأجيال، تدلل على الإمكانيات السحرية التى كانت تمتلكها ”إيزيس”، إذ اعتقد الأجداد أنه بترديدهم بعض الأساطير يبعدون عن أنفسهم الكوارث والمصائب، ويتخذ بعضها كتميمة، أو كما يفعل المشعوذون فى أيامنا من عمل حجاب يقى صاحبه الشرور!

 

وما زلنا بالمناسبة وإلى وقت قريب جدًا، نؤمن بالفكرة نفسها، نجد الحجاج يرسمون على حوائط منازلهم رحلتهم المرتقبة إلى مكة للحج، يرسمون وسيلة سفرهم منذ كانت بالجمال عبر الصحارى ثم بالسفن ثم الطائرات، وبعد عودتهم يرسمون بقية مشاهدهم فيرسمون الكعبة والطواف، وينحرون الأضحية غامسين كفوفهم فى دمائها، ويعملون بصمة يد منها جوار تلك الرسوم.

 

وكان أجدادنا من قدماء المصريين، يفعلون ذلك أيضًا بصورة أخرى، يضعون اللوحات الحجرية على جدران منازلهم، ويرسمون عليها مثلًا صورًا تمثل الإله ”حورس“ وهو يطأ بقدميه تمساحين جبارين، ويقبض بكلتا يديه على بعض العقارب والثعابين، ليقى نفسه شر أذيتها.

 

وهناك نموذج لهذه اللوحات وُجد بين مخلفات الكونت "مترنيخ" وسماها العلماء "لوحة مترنيخ"، وبها نص عن أسطورة حورس والعقرب، وقد ترجم العالم الراحل الدكتور عبدالمنعم أبو بكر اللوحة ونشرها:

 

«حدث ذات يوم بعد أن فتك ”ست” بأخيه الطيب الخير ”أوزوريس”، أن سجن ”ست” زوجة أخيه وأخته ”إيزيس” خوفًا من مكائدها، ودرءًا لما تتمتع به من تأثير كبير على الناس، ولكن الإله الحكيم ”تحوت” تبدى ذات ليلة للإلهة ”إيزيس” وفك قيودها، وأخرجها من سجنها آمرًا إياها أن تهرب نحو الشمال وتخفى نفسها بين مستنقعات الدلتا، وتنتظر هناك حتى تضع ابنها من ”أوزوريس”، وزود ”تحوت” ”إيزيس” بسبع عقارب، لتحميها وتدافع عنها فى أثناء رحلتها إلى الشمال، وكانت أوامر ”تحوت” إلى هذه العقارب السبع أن:

 

اتجهى نحو الشمال، ولتكن حواسك يقظة للطريق، وأطاعت العقارب السبع الأوامر، فسارت واحدة أمام الآلهة لتفسح لها الطريق، وسارت اثنتان منها على جانبى الإلهة، وبقيت اثنتان فى المؤخرة، وبعد أن سار الموكب أيامًا، وصلت ”إيزيس” وأتباعها إلى أرض المستنقعات فى شمال الدلتا، وكان الليل قد أقبل عندما وصلت الإلهة حدود قرية صغيرة، وقد نالها التعب والإجهاد والجوع، لذا اتجهت نحو منزل رئيس القرية ورجته فى أن يستضيفها فى أثناء الليل، ولكن زوجة الرئيس وكانت متعاظمة ذات كبرياء رفضت أن تسمح لهذه المرأة الغريبة، التى لا ينم مظهرها على أنها الإلهة ”إيزيس” بقضاء الليل فى ضيافتها.

 

وحدث أن مرت امرأة فقيرة تهش على طيورها، فأخذتها الشفقة على هذه الطارقة الغريبة ودعتها لتمضية الليل فى كوخها الحقير، وشعرت العقارب السبع التى صاحبت ”إيزيس” فى رحلتها الطويلة بالمذلة والإهانة التى لحقت بسيدتها ”إيزيس” من زوجة رئيس القرية، وأضمرت الثأر من المرأة، وأفرغت ست منها سمها فى ذيل السابعة التى زحفت بهدوء من تحت باب المنزل ووصلت إلى ابن رئيس القرية وكان يغط فى نومه ولدغته، وسرى السم المضاعف سبع مرات فى جسم الطفل الذى استيقظ من نومه مذعورًا، فانزعجت أمه وانحنت عليه تضمه إلى صدرها، ولكن الطفل كان بين الحياة والموت، ولم يستطع أحد أن يشفيه من هذه اللدغة المميتة.

 

وخرجت الأم إلى الشارع تصرخ وتولول، وسمعت ”إيزيس” هذه الضوضاء، وأدركت ماينم عليه صوت الأم من الجزع، فسارعت إليها واستفسرتها خطبها، وفى أثناء الهرج والمرج الذى حدث ارتطم أحد السكان بمصباح فى المنزل، فاندلعت النيران منه واشتعلت فيه، وتضاعفت المصائب التى حلت بمنزل رئيس القرية، بفقد ابنه وأكل النيران منزله، وهنا رق قلب الإلهة للأم الثكلى، ونسيت الإهانة التى ألحقتها بها منذ هنيهة، ونادتها قائلة:

 

تعالى إلىّ، تعالى إلىّ.. إنى امرأة ذاع صيتها فى مدينتها، اكتسبت من أبى مهارة استمددتها من فمه، وإن فمى له قدرة سحرية لا مثيل لها، فسارعت المرأة إلى ”إيزيس ”ووضعت أمامها ابنها، ولما كانت الإلهة قد تنبأت بما حدث، فإنها تمتمت بتعويذتها السحرية، منادية سم كل من العقارب السبع آمرة إياها أن تستل سمها من جسم الطفل.

 

ما أقوى سحرها وما أشد نفوذه! إذ لم تكد تنتهى من تمتمتها حتى سال السم خارجًا من جسم الطفل ودبت الحياة فيه، فتلقفته أمه معافى شاكرة متلهفة، وفى اللحظة التى استعاد الطفل فيها صحته، انطفأت النيران بقوة سحرية من منزل رئيس القرية، أما ماكان من ”إيزيس” فإنها اعتزمت الاختفاء من القرية بكل سرعة خوفًا من بطش ”ست” وأسرعت خطاها متوغلة فى المستنقعات لتختفى عن أعين المتطفلين، وفى هذا المكان الموحش استقبل الحياة ”حورس” بعد أن ذاقت أمه الأمرين فى وحدتها المضنية، وقالت ”إيزيس” بعد أن ولدت طفلها:

 

ولدت ”حورس” بن ”أوزوريس” بين مستنقعات البردى، وفرحت بولادته كثيرًا لأنى جلبت الحياة إلى من سيجيب صوت أبيه ويثأر من قتلته، ولقد أخفيته وحجبته عن أعين الرقباء.

 

وهكذا عاشت الأم مع وحيدها بين المستنقعات الموحشة ولا هم لها إلا تنشئته ورعايته، فلا تتركه إلا لتحصل على ما يقيم حياتهما من مأكل أو مشرب، ولكن ”ست” الشرير علم بالأمر ونما إليه خبر الطفل، فأرسل إليه عقربًا لتلدغه خلال غياب أمه، وعندما رجعت وجدت وحيدها يكاد يفارق الحياة، وهو مستلق على الأرض، التى رواها ماء سال من عينيه وزبد خرج من فمه، كان بلاحراك ونبضات قلبه خفتت وتقلصت عضلات أعضاء جسمه، وعندما رأت ”إيزيس” حال طفلها صرخت صرخة مدوية سمعها قاطنو القرية المجاورة، فهرعوا إلى مصدر الصوت وصاحت امرأة من بينهم قائلة:

 

لابد وأن ”حورس” قد لدغته عقرب، أما إيزيس فقد قربت أنفها من فم الطفل لتستطلع دبيب أنفاسه، ثم فحصت جرحه ووجدت السم عالقًا به، ورغم أن ”إيزيس” قد تمكنت من شفاء ابن رئيس القرية من محنة مماثلة، إلا أنها لم تستطع إبراء وحيدها، لأن العقرب فى هذه الحالة قد بعث به إله ولم يكن عقربًا عاديًا، وأخذت ”إيزيس” فى محنتها تصرخ:

 

أى ”رع” إن ابنك ”حورس” قد لدغ، إن حورس قد لدغ، وهو الوريث والمولى على عرش ”شو”، إن الطفل الجميل ذو الأعضاء الذهبية قد لدغ، إن ”حورس“ ابن ”أوزوريس” قد لدغ، إن ”حورس” الطفل البرىء والصغير بين الإلهة قد لدغ، إن حورس الذى أعددته لكى يثأر لأبيه قد لدغ، إن ”حورس” الذى خشيت أن يصيبه مكروه وهو فى رحمى قد لدغ، إن ”حورس” الذى رعيته قد لدغ، إن ”حورس” الطفل الذى رجوت حياته مجروح، إن الطفل قد مات.

 

وسمعت ”نفتيس” أخت ”إيزيس” بالحادثة فحضرت باكية، وكذلك الإلهة ”سلكت” سيدة العقارب، ونصحتها بالدعاء للسماء حتى تقف سفينة ”رع” بمن فيها، فأرسلت ”إيزيس” صراخ قلبها إلى موكب الشمس، فانزعج ”رع” وأمر بإيقاف المركب الذهبى وألا تسير فى رحلتها اليومية، وأرسل الإله ”تحوت” ليستطلع أمر ما حدث لـ”إيزيس”، فنزل الإله إلى الأرض وأخبر ”إيزيس” أنه أتى ليشفى ابنها قائلا:

 

ولكى أشفى كل شخص أصيب بمثل ما أصيب به ”حورس”، وقابلته ”إيزيس” بعويلها نادبة ابنها الصغير، إلا أن ”تحوت” أكد لها أن كل شىء سيسير على مايرام، وبدأ ”تحوت” يرتل تعويذته السحرية معددًا أوصاف ”حورس” مقارنا إياها بأوصاف كائنات آلهية متعددة:

 

”حورس” تحيطه العناية، ”حورس” مثله كمثل ذلك الذى فى قرص الشمس، الذى يضىء الأرضين بنور عينيه، أى ”حورس” استيقظ، أى ”حورس” إن حصانتك أصبحت مؤكدة، استيقظ وأدخل الفرح إلى قلب أمك ”إيزيس”، إن كلمات ”حورس” سوف تربط بين القلوب، إن “حورس” سوف ينشر السلام على أولئك الذين يرغبون فى السلام، أنا ”تحوت” ابن ”رع” البكر، إن ”آتوم” وأصحابه أصدروا أمرهم لى، بأن أشفى ”حورس” لتقر عين أمه، ولأشفى كل من كان مصابًا بنفس العلة، سيحيا ”حورس” من أجل أمه، وسيحيا كذلك كل من كان مصابًا بنفس العلة.