رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

سماء عربية

شارع الرشيد ببغداد شدت فيه أم كلثوم وارتاده الشعراء

رجاء حميد رشيد - العراق
رجاء حميد رشيد - العراق

شارع الرشيد أحد المعالم الحضارية والتاريخية فى بغداد، وجاء إنشاؤه عام 1916م لتسهيل حركة الجيش العثمانى وعرباته أمام القوات البريطانية، ويخترقها من أقصى الشمال (الباب المعظم) إلى أقصى الجنوب (الباب الشرقى)، بطول 3,120 كيلومترا، ويضم على جانبيه كنوزها وثروتها الإثارية والثقافية والفلكلورية والعمرانية والسياسية.

عن تاريخ شارع الرشيد تروى د.غادة موسى رزوقى رئيس قسم هندسة العمارة فى كلية الهندسة جامعة بغداد: كان عبارة عن مسار وعلى جانبيه أبنية مهدمة تم إعادة بناؤها وأخذت تكوينات جديدة شكلت بداية لنهضة عمرانية فى عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم، واتسمت بملامح وخصوصية معينة ,تأثر البعض منها بالحداثة الكلاسيكية الأوربية التى كانت سائدة حينذاك ,وقسم آخر منها اتسم بالحرفيات التى كانت سائدة فى المنطقة من عمال البناء والأسطواتـ إضافة لملامح جلبها بعض الحرفيين من الأقاليم المجاورة  للعراق مثل سوريا ولبنان ,فتشكلت صورة جديدة لشارع الرشيد وخاصة فى الثلاثينيات منها أروقة وأعمدة تطل عليه أبنية مبنية وفق الأعراف البنائية العراقية التقليدية مع دمج عدد من العناصر الأوربية وبعض الطرز التى أعيد بناؤها فى بداية العشرينيات لمعماريين متعددين وخاصة الأسطوات، فى أربعينيات القرن الماضى وصاعدا ظهرت تصاميم جديدة لمعماريين عراقيين من الرواد أعطوا ملامح حداثة معاصرة لهذا الشارع  منهم (جعفر علاوى، ورفعت الجادرجى، ومحمد مكية).

وعكس شارع الرشيد منذ إنشائه الحياة الاجتماعية والحضارية والثقافية العراقية ممثلة فى أبنية مهمة تعد منبرًا للثقافة والسياسة والعلم، إذ ضم مقاهى شهيرة يرتادها الشعراء مثل مقهى الرصافى والزهاوى وشدت فيها كوكب الشرق أم كلثوم، كما كان يضم أهم المراكز التجارية فى ستينيات القرن الماضى مثل الأسواق المركزية (أورزدى باك) ومجموعة المحلات المتخصصة على طول الشارع حتى نهايته باتجاه الباب الشرقى ومحل تسجيل أسطوانات المعروف (جقمقجى)، هذه المواقع أعطته هويته الاجتماعية والحضارية والثقافية، إلى أن انحسر تأثيره المركزى وأهميته التجارية بالتوسع العمرانى ونشوء مراكز تجارية فى كل ضواحى العاصمة بغداد، مثل المنصور والكرادة وغيرها.

 

وعن تطور معماره قالت: ظهرت فى منطقة حافظ القاضى تحديدًا أولى الأبنية المتميزة بحداثة تقليدية بسيطة تختلف عن النهج الثلاثينى الذى كان سائدا فى الأبنية التقليدية الأخرى فظهرت تكوينات جديدة هى الحداثة المعاصرة للأربعينيات والخمسينيات والفترات اللاحقة، وبهذا يمكن اعتبار بداية ظهور الحداثة بالعراق فى منطقة حافظ القاضى فى هذه الأبنية التى لا تزال قائمة للآن.

وفى ستينيات القرن الماضى بدأ المعماريون العراقيون ينتهجون نهجًا جديدًا فى تصاميم الأبنية يلائم الظروف البيئية والاجتماعية، والتواصل مع الماضى، فتكونت تطلعات للعمارة العراقية بطريقة معاصرة ومتواصلة مع الماضى، فظهرت أبنية تتميز بتفاصيل معمارية ومعالجات مناخية مختلفة، وأبنية خارجة عن تصميم الشارع ذات طابقين ومعمد برواق الذى صار قانونًا له، وكل مبنى جديد يصمم باستمرارية الشارع، أما المبانى المختلفة فتشيد بالرجوع إلى الخلف وهذا ما نراه فى مبنى (مصرف الرافدين والبنك المركزى)، حيث اتسمت هذه الأبنية المتعددة الطوابق بملامح وارتفاعات جديدة وأعقبتها تجارب أخرى فى الاتجاه الآخر للشارع مثل تجربة رفعت الجادرجى فى مبنى مركز اتصالات الرشيد الذى يعتبر من الأبنية المتميزة وأعيد إعماره بعد أحداث 2003.

وعند فتح جسر السنك فى سبعينيات القرن الماضى انحرف الشارع عن استقامته الرئيسية قليلًا ليمر تحت الجسر ويستكمل حتى نهايته فى منطقة الباب الشرقى وصدر قرار من أمانة بغداد بهدم المدرسة المرجانية، وقد أعيد بناؤها لكن لم يتبق من أجزائها التاريخية سوى المدخل والمئذنة فقط والباقى هدم وأعيد بناؤه عندما حاولوا جعل الشارع باستقامة واحدة.

وعكس شارع الرشيد منذ إنشائه بمبانيه الحياة الاجتماعية والحضارية والثقافية العراقية، تاريخ العراق وثقافته، فجامع الحيدرخانة شهد تجمع العراقيين الثوار وانطلاق ثورة العشرين، التى كان لها الأثر فى الحركة الوطنية العراقية فى التاريخ العراقى المعاصر، كما شهد الشارع الكثير من الاعتصام والتظاهرات والمواجهات التى حصلت فى "شناشيله" التى تحملها التى أتاحت أعمدتها السميكة لأهالى الشارع مشاهدة تلك الأحداث عن كثب ونقلها إلى الأجيال ابتداءً من استعراض الجيش البريطانى عند احتلال بغداد 1917 وانتهاءً بتظاهرات 1968 والكثير من الأحداث لعل أشهرها حادثة محاولة اغتيال الزعيم الراحل عبدالكريم قاسم 1959 التى نفذتها خلية من حزب البعث يترأسها صدام حسين وعبدالوهاب الغريرى الذى قتل فى أثناء المحاولة وأقيم له تمثالًا فيها وسميت ساحة الغريرى وبعد التغيير فى النظام السياسى 2003 غيرت لتمثل العكس بوضع تمثال عبدالكريم قاسم.

وبعد احتلال العراق فى عام 2003م، أُهمل شارع الرشيد وفقد الكثير من جماله وملامحه وتحولت محلاته (الأورزدى باك) ومقاهيه وسينماته (روكسى وسميراميس والخيام) ومكتبة "مكنزى" الشهيرة ومعارض السيارات والملابس والمجوهرات، إلى محال وورش صيانة وتصليح الأدوات والسيارات وأصابت الشيخوخة أعمدته وأروقته ومبانيه، ونافسته شوارع أخرى، مما حدا بالسلطات عام 2009م، إلى توقيع عقد مع مكتب استشارى لتأهيل الشارع وتطويره، وبدأ بأعمال المسح وجمع المعلومات وتصوير وإعداد البيانات والدراسة التحليلية ثم قدمت المراحل الأولى للتأهيل، إلا أن سعة العمل وصعوبة تفاصيله والظروف التى مرت بالعراق وأخطاء فى كتابة المواصفات وعدم توفر الخبرة الكافية، أوقفت المشروع قبل وصوله المرحلة النهائية ففسخ العقد وأوقف العمل وسحب من الشركة فى عام 2012م، ولا تزال الأجزاء الأولى من العمل موجودة، لكن لم يستكمل بعد، وتوقف الحلم فى إعادة مجد شارع طالما مثّل بغداد الحضارة.