رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرإلهام شرشر

مقالات الرأي

الطريق إلى أرض التوحش

أحمد إبراهيم الفقيه
أحمد إبراهيم الفقيه

يسمونها‭ ‬فى‭ ‬بلاد‭ ‬الغرب‭ ‬مثاليات‭ ‬الدراسة‭ ‬العليا‭ ‬أو‭ ‬بلغة‭ ‬أولئك‭ ‬القوم‭ ‬‮«‬High‭ ‬school ideals‮»‬،‭ ‬ويعنون‭ ‬بها‭ ‬تلك‭ ‬الحالة‭ ‬التى‭ ‬تتلبسنا‭ ‬عندما‭ ‬نتصور‭ ‬فى‭ ‬أول‭ ‬مراحل‭ ‬الشباب،‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬نظامًا‭ ‬سياسيًا‭ ‬مثاليًا‭ ‬عجزت‭ ‬أوطاننا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬إليه،‭ ‬ولم‭ ‬تستطع‭ ‬الأنظمة‭ ‬السياسية‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قريبة‭ ‬منه،‭ ‬فنسعى‭ ‬إلى‭ ‬التمرد‭ ‬والثورة،‭ ‬أملًا‭ ‬فى‭ ‬إرغام‭ ‬أوطننا‭ ‬على‭ ‬القبول‭ ‬بهذا‭ ‬النظام‭ ‬البديل‭ ‬الذى‭ ‬نظن‭ ‬أنه‭ ‬يحقق‭ ‬ما‭ ‬نصبوا‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬مثاليات،‭ ‬ولأنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬نظام‭ ‬سياسى‭ ‬مثالى‭ ‬فى‭ ‬العالم،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬غالبًا‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬نقع‭ ‬فى‭ ‬هوى‭ ‬نشرات‭ ‬حزبية‭ ‬خادعة،‭ ‬تقدم‭ ‬صورة‭ ‬وردية‭ ‬لمشروعها‭ ‬السياسى،‭ ‬وكل‭ ‬نشرة‭ ‬من‭ ‬نشرات‭ ‬هذه‭ ‬الأحزاب‭ ‬تدعى‭ ‬أن‭ ‬مشروعها‭ ‬هو‭ ‬الحل‭ ‬وهو‭ ‬الخلاص‭ ‬وهو‭ ‬طريق‭ ‬الشعب‭ ‬إلى‭ ‬النهضة‭ ‬وتحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬وبناء‭ ‬مجتمع‭ ‬الحضارة،‭ ‬وتوفير‭ ‬السعادة‭ ‬والهناء‭ ‬والرخاء‭ ‬للمواطن،‭ ‬مهما‭ ‬اختلفت‭ ‬اتجاهاتها،‭ ‬قومية‭ ‬أو‭ ‬شيوعية‭ ‬أو‭ ‬دينية،‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬ذلك،‭ ‬فكلها‭ ‬تقدم‭ ‬لقارئها‭ ‬عالمًا‭ ‬مفعمًا‭ ‬بالخير‭ ‬والجمال‭ ‬والمحبة‭ ‬والإنصاف‭ ‬والعدالة،‭ ‬وعندما‭ ‬نقارن‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬بالتطبيقات‭ ‬لحظة‭ ‬وصول‭ ‬هذه‭ ‬الأحزاب‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬والسلطة،‭ ‬نجد‭ ‬صورة‭ ‬عكسية‭ ‬لما‭ ‬تقوله‭ ‬النشرات،‭ ‬قمعًا‭ ‬وظلمًا‭ ‬وممارسات‭ ‬إجرامية‭ ‬ضد‭ ‬معارضيها‭ ‬وأصحاب‭ ‬الرأى‭ ‬المخالف‭ ‬لها،‭ ‬وعندئذ‭ ‬فقط‭ ‬يظهر‭ ‬زيف‭ ‬هذه‭ ‬النشرات‭ ‬وخداعها‭. ‬وأنا‭ ‬هنا‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬تجاربنا‭ ‬فى‭ ‬العالم‭ ‬الثالث،‭ ‬وما‭ ‬شاهدنا‭ ‬فى‭ ‬العقود‭ ‬التى‭ ‬عاصرتها‭ ‬أجيال‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬عانت‭ ‬الويلات‭ ‬من‭ ‬أحزاب‭ ‬ظنتها‭ ‬وهى‭ ‬تلتقى‭ ‬بها‭ ‬فى‭ ‬المعارضة‭ ‬وقبل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬ذات‭ ‬مبادئ‭ ‬ومثل‭ ‬وقيم‭ ‬نبيلة،‭ ‬ثم‭ ‬حصل‭ ‬العكس،‭ ‬ولا‭ ‬أدرى‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬استثناء‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬ولكنه‭ ‬إذا‭ ‬حدث‭ ‬فهو‭ ‬استثناء‭ ‬نادر‭ ‬جدًا،‭ ‬وقصير‭ ‬جدًا،‭ ‬لأن‭ ‬أقطار‭ ‬العالم‭ ‬العربى‭ ‬كانت‭ ‬حقل‭ ‬تجارب‭ ‬لكل‭ ‬أنواع‭ ‬النظريات‭ ‬السياسية‭ ‬فقد‭ ‬شاهدنا‭ ‬أقطارًا‭ ‬أعلنت‭ ‬عن‭ ‬تطبيقها‭ ‬للنظرية‭ ‬الماركسية‭ ‬الشيوعية‭ ‬وأخرى‭ ‬حكمتها‭ ‬أحزاب‭ ‬ذات‭ ‬توجهات‭ ‬قومية‭ ‬تسمى‭ ‬البعث‭ ‬أو‭ ‬الحزب‭ ‬القومى‭ ‬العربى،‭ ‬ورأينا‭ ‬أقطارًا‭ ‬حكمتها‭ ‬جماعات‭ ‬ذات‭ ‬توجهات‭ ‬دينية‭ ‬إخوانية‭ ‬أو‭ ‬سلفية،‭ ‬ورأينا‭ ‬بلدانًا‭ ‬عربية‭ ‬قالت‭ ‬إن‭ ‬أنظمتها‭ ‬ليبرالية‭ ‬وكلها‭ ‬للأسف‭ ‬الشديد‭ ‬كانت‭ ‬متشابهة‭ ‬فى‭ ‬القمع‭ ‬والقهر‭ ‬والفشل‭ ‬فى‭ ‬تحقيق‭ ‬مشروع‭ ‬النهضة‭ ‬والنماء‭ ‬وتوفير‭ ‬العيش‭ ‬الكريم‭ ‬السعيد‭ ‬للمواطن،‭ ‬كما‭ ‬كنا‭ ‬نقرأ‭ ‬فى‭ ‬نشراتها‭.‬

وأنا‭ ‬هنا‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬تجارب‭ ‬الماضى،‭ ‬آملًا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬انتفاضات‭ ‬الربيع‭ ‬العربى،‭ ‬قد‭ ‬جاءت‭ ‬تؤسس‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬أقطار‭ ‬الوطن‭ ‬العربى‭ ‬لعهد‭ ‬جديد‭ ‬ومرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬وأمل‭ ‬جديد،‭ ‬وأعود‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬هاجس‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الصورة‭ ‬المثالية‭ ‬فى‭ ‬ذهن‭ ‬الفتى‭ ‬الذى‭ ‬باشر‭ ‬وهو‭ ‬يدخل‭ ‬مراحل‭ ‬الدراسة‭ ‬العليا‭ ‬أول‭ ‬تجاربه‭ ‬السياسية،‭ ‬قد‭ ‬يدخله‭ ‬فى‭ ‬متاهة‭ ‬لا‭ ‬حد‭ ‬لها،‭ ‬ويجعله‭ ‬ينسى‭ ‬معطيات‭ ‬الواقع،‭ ‬لأن‭ ‬النموذج‭ ‬الذى‭ ‬يحلم‭ ‬به‭ ‬نموذج‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬له‭ ‬فى‭ ‬الحياة،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬عقله‭ ‬وقلبه،‭ ‬فنجده‭ ‬يركض‭ ‬وراء‭ ‬الوهم،‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يقبض‭ ‬عليه،‭ ‬وتكون‭ ‬النتيجة‭ ‬وقوعه‭ ‬فى‭ ‬مرض‭ ‬الفصام‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الواقع،‭ ‬وهى‭ ‬حالة‭ ‬قد‭ ‬تدفع‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الوقوع‭ ‬فى‭ ‬مصيدة‭ ‬الجماعات‭ ‬التى‭ ‬تحمل‭ ‬تصورًا‭ ‬للعالم‭ ‬تسعى‭ ‬لتنفيذه‭ ‬وفرضه‭ ‬بالتوحش‭ ‬والإجرام‭.  ‬يبدو‭ ‬صعبًا‭ ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬المثاليات‭ ‬التى‭ ‬شكلت‭ ‬البدايات،‭ ‬والمآلات‭ ‬المرعبة‭ ‬التى‭ ‬أوصله‭ ‬إليها‭ ‬هذا‭ ‬الطريق،‭ ‬أرض‭ ‬التوحش‭ ‬والإجرام‭ ‬والولوغ‭ ‬فى‭ ‬دم‭ ‬الأبرياء،‭ ‬لكنها‭ ‬حالة‭ ‬عمى،‭ ‬وتيه‭ ‬وضياع،‭ ‬لا‭ ‬يحكمها‭ ‬منطق‭ ‬ولا‭ ‬قانون‭ ‬ولا‭ ‬وجود‭ ‬فيها‭ ‬لعلة‭ ‬ولا‭ ‬معول،‭ ‬ولا‭ ‬سبب‭ ‬يرتبط‭ ‬بنتيجة،‭ ‬إنه‭ ‬الجنون،‭ ‬جنون‭ ‬التوحش‭ ‬والإجرام‭ ‬والرعب‭.‬

موضوعات متعلقة